ربعُ قرن من تدبير الشأن الثقافي بالمغرب يقدّم مثقفون مغاربة شهاداتهم على ما حقّقه والمنتَظَر مواجَهتُه من تحديات، في تصريحات استقتها جريدة هسبريس الإلكترونية.
عتبات للتقدّم
قال الأكاديمي والروائي والمسؤول الثقافي مبارك ربيع إن السنوات الخمس والعشرين الماضية منذ تولي الملك محمد السادس حكم البلاد عرفت “منجزات كثيرة على جميع الميادين الاجتماعية الاقتصادية والدبلوماسية والثقافية أيضا بطبيعة الحال”، كما عدّد الطموحات المنتظر تحقيقها وتقييم مدى فعاليتها في السنوات القادمة.
ويرى المتحدث أن “من المؤشرات الإيجابية التوسع في المنظومة التعليمية بكل مستوياتها، وفي عدد المنتمين إليها من جميع المستويات الدراسية والجامعية؛ لأن هذا مشتل لإنتاج مثقفين، من أدباء ومبدعين وشعراء وروائيين وفنانين تشكيليين؛ وبقدر ما تتسع القاعدة العريضة من المؤسسات التعليمية تكثر فرص إنتاج وبروز هذه القامات الإبداعية في جميع الميادين”، ثم أردف قائلا: “هذا مشتل لإنتاج قرّاء الكتب والمادة الثقافية، والمعنيين والمهتمين بالعروض الفنية والمسرحية، وهذا كله يساهم في نشر الثقافة. ونلاحظ في المغرب، في جميع المنتديات والملتقيات والجوائز والمعارض العربية، أن الأسماء المغربية تحتل دائما مراكز مرموقة”.
ومن بين ما تمثله محطة ربع قرن “فرصة للمراجعة أيضا، بالنسبة للمؤسسات الرسمية وغير الرسمية، والأفراد المعنيين والمستهلكين أيضا؛ لأنه في المجال ليس هناك سقف لما يجب تحقيقه، وتوجد مؤشرات عديدة على عدم الوصول إلى ما ينبغي أن يكون عليه المغرب في العديد من الاعتبارات والإنتاجات”، وفق الأديب ذاته، وتابع:
“يمكن أن ننظر بعين انتقادية؛ فعندما نقول إن هناك وفرة للمؤسسات المنتجة للمستهلك الثقافي، من الناحية النوعية والكمية بالنسبة للمستهلك المتخصص، فإن هذا لا يبعث على تفاؤل كبير، عندما ننظر إلى مخرجات المنظومة التعليمية من الابتدائي إلى الجامعي، فهناك تناقص في عدد القراء، رغم وفرة في العناوين مقارنة بما كان ينشر خلال ربع قرن؛ وهو ما يرافقه اختلاط في القيم مثل حقوق الملكية الفكرية، والعلاقة بين الناشر والمؤلف على مستوى الكتاب، وسياسة التحفيز بالدعم”.
ويقدّر مبارك ربيع أن سياسة دعم الكتاب والفنون ينبغي أن تكون موضع تقييم لمعرفة هل تغير معها قدر استهلاك المنتج الثقافي بالإيجاب، وهل يمكن الاستغناء عنها لاستقلال صناعة الكتاب أم لا، ثم أردف: “الوضع الحالي أحسن من السابق، لكن عتبات التقدم باقية، ولا يوجد سقف. ومن بين ما ينبغي تقييمه ظاهرة المهرجانات الثقافية والمؤتمرات، التي صار بعضها شكليا، وينظَّم ليُدرَج في منجزات السنة لمؤسسة رسمية أو مدنية، ومن حيث الأثر لا يترك شيئا وراءه”.
ومن بين ما يتطلب وقفة للتقييم “والخطوِ إلى الأمام” بالنسبة للمصرّح “نوادي ومقاهي الثقافة، لمعرفة هل هي ظواهر سطحية عابرة، أم تترك أثرا، إضافة إلى سوء حال مؤسسة اتحاد كتاب المغرب؛ وكأن الفساد يتخلّق من ذاته ولا أحد يتحمل المسؤولية، بينما المثقف كان ينبغي أن يكون نموذجا في النقد الذاتي والتقدم”.
ثم زاد المتحدث: “توجد منجزات على جميع المستويات، في الثقافة العالمة والاجتماعية العامة، لكن الطموح ينبغي أن يكون في مستوى المغرب، والمجال في حاجة أكثر للاهتمام والعناية والتنظيم وتركيز العمل، ولم لا أن تشارك فيه الأحزاب السياسية مع تقديرنا لدورها، والواجهة الديمقراطية التي تمثلها من مرحلة التحرير إلى اليوم، فتعدديتها الرائعة لا نجد انعاكاساتها في البرامج الثقافية، والكل يعرف مستوى ما تأخذه الرؤية الثقافية في البرامج السياسية. وكل هذا من أجل انطلاقة جديدة نحو ربع قرن آخر زاهر، وفي مستوى المغرب وما يحققه في الواجهات الأخرى”.
تطورات وتحديات
قال المؤرخ والناشر امحمد جبرون إن المغرب خلال السنوات الماضية “عرف تطورا ثقافيا مهما جدا”، وهو ما ينبغي أن يُدرك معه أن “المغرب بعد الاستقلال لم تكن الثقافة أولوية من أولوياته، ولم تأخذ حظها من الاعتبار من الناحية السياسية حتى فترة السبعينيات من القرن الماضي، والمبادرة الثقافية للدولة والسياسة الثقافية تأخرت كثيرا، وهذا ما جعل البلد في عدد من المجالات الثقافية أقل من بعض الدول التي حصلت على الاستقلال في الفترة نفسها”.
وأضاف المتحدث: “رغم هذا التأخر عرف القطاع الثقافي تقدما مهما جدا، في مستويات مختلفة، وخاصة في مجالات نشأت حديثا بالمغرب، مثل السينما، والفنون التشكيلية، والمسرح، والطباعة والنشر؛ لكن التحدي الكبير الذي مازال يواجه المغرب من الناحية الثقافية هو تحدي السوق الثقافية، التي مازالت نخبوية من جهة، وعلى هامش، حاجيات الإنسان المغربي واحتياجاته. ولا تشكل النفقات الثقافية بالنسبة للمواطن المغربي إلا نسبة ضئيلة جدا تكاد تكون مهملة. وما ينفقه الإنسان والأسرة المغربيان على الكتاب والسينما والثقافة بشكل عام ضعيف جدا؛ ما يؤثر على الإنتاج الثقافي، وازدهار الثقافة وتطورها”.
والتحدي الثاني، وفق جبرون، أنه “في السنوات الأخيرة، بفعل التحول الرقمي المرتبط بتحول العالم، للأسف المادة الثقافية التقليدية المرتبطة بالكتاب، والشاشة، والمسرح، وإنتاجات من هذا القبيل عرفت تدهورا، ما يدعو الدولة والفاعلين إلى إعادة الاعتبار للثقافة، في الزمن الرقمي، ومحاولة استدراك بعض جوانب النقص ما أمكن، خاصة بالنفقات الثقافية، على مستوى الحكومة خاصة، لأن ما تخصصه للثقافة ضعيف جدا”.
مشاريع إصلاح
قالت بديعة الراضي، رئيسة رابطة كاتبات المغرب وأفريقيا، إن “التحول الذي عرفه العهد الجديد جعل الثقافة في قلب المعركة التنموية؛ وتقييم عقدين ونصف من التجربة المغربية في مجالات تنموية اقتصادية وسياسية ومجتمعية لا يستقيم دون استحضار الدور الثقافي ومجالات اشتغاله، والآليات التي عززت من فاعلية هذا الدور في الفترة الزمنية المشار إليها”، ثم استرسلت: “التحول الذي انطلق مع العهد الجديد في النظر إلى المسألة الثقافية ووضعها في قلب المعركة التنموية يعد في حد ذاته بداية دالة وإستراتيجية في مفهوم التغيير، بإخراج الثقافة من أرض لإنجاز الفعل إلى عامل قوي لإنجاز الفعل، مع ربط العامل الثقافي بالإنتاجية في المجتمع. ومن موقع التعدد الثقافي والفكري في المجتمع المغربي فإن رهان التدبير كان حاضرا في السياسة العمومية لبلادنا، لكن أجرأة هذا التدبير ضمن خرائط أكثر فاعلية ووضوحا ومعبر عنه في السياسة العمومية بدأ مع العهد الجديد الذي فتحت فيه ملفات كبرى أبانت عن حمولة ثقافية مختلفة وجريئة، تعتبر الثقافة هي عوامل مكتسبة عبر العلم والمعرفة، والوعي في علاقات الأفراد والجماعات، وفي العلاقة بينهما وبين المؤسسات ثم العلاقة بين المؤسسات نفسها”.
وتابعت الراضي موضّحة أنه “منذ اعتلاء جلالته العرش جعل المسألة الثقافية واللغوية قلب المعركة الثقافية، التي نتوخى منها أن تصبح عاملا للإنتاجية، من خلال تغيير العقول الكفيلة بجعل التراث المعرفي والعلمي والعمراني والفني ينجز الفعل في فضاء التنمية الاقتصادية والثقافية والمجتمعية، وأن تصبح الثقافة هي الفضاء الذي يقود إلى النمو في مجالات مختلفة من العطاء الحضاري والفكري وخلق بنيات تشتغل على الانفتاح على الثقافات الأخرى من موقع هوياتي قوي وراسخ، وملتقى لكافة الثقافات والحضارات بمنهجية متطورة ومنفتحة ومؤثرة تسوق تاريخها وذاكرتها بالتجديد، والتمدد عبر القارات والمجالات، بالشعر والرواية والمسرح والتشكيل والسينما والرقص والفنون وعروض الأزياء والتصوير الفوتوغرافي والتراث الفكري والعمراني، وبكل المظاهر الأخرى في اللباس والمطبخ وطرق العيش المختلفة في كافة جهات المملكة، التي تزخر بأنماط ينبغي تطويرها وتسويقها في قالب جمالي وفني مدروس وهادف”.
وزادت المتحدثة ذاتها: “في هذه المحطات كانت هناك عوائق حرص العهد الجديد على مواجهتها بإطلاق مشاريع إصلاح هامة وإستراتيجية، سواء تعلق الأمر بالمسألة الثقافية أو اللغوية، من منطلق تطوير المشترك الثقافي وصيانة التنوع في الهوية المغربية، والحفاظ على التراث الثقافي اللامادي وتأهيله، كما أطلقت مشاريع هامة في مجال النشر ودعم الكتاب والمسرح، لكننا مازلنا لم نرتقِ إلى مستوى تطلعاتنا في السياسة العمومية إزاء التعامل مع الثقافة كمجال خصب وفضاء مهم للاشتغال على الجانب التنموي”.
وفسّرت بديعة الراضي هذه المسألة بكون “السياسة العمومية الثقافية ليست فقط بنايات من الآجُر والإسمنت؛ بل إنها اشتغال على الموارد البشرية الكفيلة بحمل مشعل التغيير، واشتغال على البيئة الحاضنة للرؤى المستقبلية لهذا المنحى في العهد الجديد الجريء والمتطور في التعامل مع الفعل والفاعل الثقافي؛ فالثّقافة المغربية غنية بعربيتها وأمازيغيّتها وتأثيراتها التاريخية في مجالاتها الإفريقية والمتوسطية، وهذه التأثيرات كفيلة بخلق مجالات للتطور والنمو”.
ثم ختمت المصرحة بالقول إن “من شأن الأوراش التي دشنها العهد الجديد على التوالي، والتي عززها دستور 2011 الذي نص على أن ‘المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبّثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم وتنوع مقومات هويتها الوطنية’، وعدّد روافد ‘الشخصية المغربية’ التي وحّدها انصهارُ ‘كلّ مكوناتها، العربية – الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية’، وأغنتها ‘روافدها الإفريقية، والأندلسية، والعبرية، والمتوسطية’، (من شأنها) أن تدعو إلى ضرورة وضع سياسة عمومية تعمل على تفعيلها بشكل بخرائط مدروسة، من خلال ممارسة ثقافة القرب لخلق النمو في كافة التراب الوطني”.
الحاجة إلى سياسة ثقافية
الناقد والشاعر صلاح بوسريف، الذي أدار مجلة “الثقافة المغربية” الصادرة عن الوزارة الوصية على قطاع الثقافة، يرى أن “الشرط الأساس لأي دينامية وفعل وحركية ثقافية في المغرب يرتبط بوجود سياسة ثقافية، والمغرب على المستوى الرسمي لا توجد فيه سياسة ثقافية، وهذه ليست جملة ترد في بيان أو تصريح وزير للثقافة، بل تكون متبناة من قبل الدولة، وقبل تبنيها من الدولة المغربية يكون فيها تداول بين المثقفين وأوراق وتصورات ورؤى، ثم توضع أمام رئيس الحكومة الذي يقترحها على أساس أنها السياسة التي فيها ثوابت تهم الهوية المغربية والأمن الثقافي المغربي والخصوصيات الثقافية لنا كمغاربة، وتكون هذه الثوابت مرتبطة بوجود متغيرات، وهي ما يمكن أن يقوم به كل وزير للثقافة من اقتراحات وإضافات لا يمكن أن تمس ثوابت السياسة”.
لكن يقول بوسريف إن الواقع أن “كل وزير ثقافة يأتي إلى الوزارة يبدأ من الصفر، ويلغي كل شيء، مع الحفاظ على القليل من المكتسبات، وكأن التراكمات التي حدثت قبله لا دور لها على الإطلاق، إلى درجة أن وزراء عطلوا كل شيء ولم تتحرك الوزارة في أي اتجاه”، وزاد: “كل وزير يأتي من حزب، وهذا واقع لا ارتفاع عنه، فيشتغل بمنطق الحزب، في حين كتبت مرارا أن وزارة الثقافة ينبغي أن تستقل على باقي الوزارات، ونعود إلى ما كانت عليه من قبل لما كانت منتجة، وتكون وزارة سيادة، لأن المسألة الثقافية لا تهم حزبا، أو جماعة، بل تهم ثقافة أمة وشعب وحضارة وتاريخ وهوية مغربية، ولا يمكن تركها في يد وزير يجرها للانتماء الإيديولوجي أو الثقافي أو الجماعة التي تتحلق حوله، وهذا لم يتحقق خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية”.
وتابع المتحدث: “وزارة الثقافة الحالية مثلا مرْكزَت الثقافة في الرباط (…) فهل عدنا إلى المركزية من جديد؟ وتوضع سياساتٌ في يد موظفين لا يستشيرون المثقفين، ولا أعني المتحلقين حولهم من جمعيات ومؤسسات ثقافية، بل المثقفين الذين لهم علاقة حقيقية بالشأن الثقافي وإدارته، ومواكبته، خلال عقود مختلفة. وحين يصبح الملف في يد الموظف يتعامل معه إداريا، وبالمساطر الإدارية، ولا يفهم المتحولات والمتغيرات التي تقتضي إعادة النظر في المفاهيم والتصورات والمعنى الثقافي المعني بالهوية المغربية، مع الانفتاح على إفريقيا والعالم العربي والمتوسط والبعد الكوني. لكن أيضا علينا الانفتاح على كل هذه المحيطات من حولنا داخل سياقنا الثقافي المغربي وهويتنا المغربية، ولا نجد هذا في ما يجري، ومن بينه تجميد المجلات الثقافية (الصادرة عن وزارة الثقافة) دون أي سبب، ولا تفسير”.
وواصل بوسريف: “مسألة الدعم هزيلة للأسف، ولا تفي بشرط وفرة النشر، والكتابة، والإصدارات المغربية ليس في المغرب فقط بل في العالم العربي أيضا، كما توجد مشاكل لجان الدعم غير الموضوعية غالبا، وتعاملها بشكل إداري مع دفاتر التحملات؛ والحكم على عدم دعم ديوان الشعر مثلا لأنه ليست فيه عناوين وهوامش، وكأنه كتاب…مارسيل بروست أصدر كتابا عن القراءة، دون هوامش، ولو اقترحَه للجنة لأبعدَته، لارتهانها الإداري لدفاتر التحملات”.
وبالتالي فتقييم صلاح بوسريف أن العقدين الأخيرين “فيهما تذبذبات كثيرة ومتغيرات، في الاتجاه السلبي لا الإيجابي”، مردفا: “لا تهمني إحصاءات الوزراء حول زوار معرض الكتاب، بل ما أجده في المكتبات التي لا ألتقي فيها إلا من أعرفه. وتوجد أزمة قراءة حقيقية؛ كما أن مشروع القراءة المقترح مع وزارة التعليم ومسألة دعم المكتبات المدرسية فيه أمر لم يتم، وسُكت عنه، وما يوجد هو الاهتمام بالجديد الفرجوي والفلكلوري، بينما في معرض الكتاب مثلا لم يلتفت الوزير إلى كبار المثقفين والمفكرين المغاربة، وكانت له أولويات أخرى”.
وأجمل المتحدث تصريحه بالقول: “الثقافة في المغرب مازالت في مكانها لم تتحرك، وما يتحقق فبفضل المجهودات الفردية والشخصية للكُتّاب، وعملهم الشخصي وإصداراتهم الشخصية، وكذلك تمثيلهم للمغرب؛ أما بالنسبة لوزارة الثقافة فهم أكسسوار، ولا تهتم بهم، ولو أن عطاءَهم للثقافة أهم بكثير مما تقوم به الوزارة. على الوزارة أن توجد بذاتها مستقلة لا بغيرها، وتتحول إلى (ما كانت عليه) وزارة للشؤون الثقافية؛ فهي لا تنتج ثقافة، بل مسؤوليتُها إدارة الشأن الثقافي، وللثقافةِ كُتّاب ومفكرون ومبدعون وفنانون، والوزير الوصي على تدبير القطاع يدير هذا الشأن بميزانية تخصصها الدولة”.
The post 25 سنة من تدبير الثقافة بالمغرب .. تحوّل الرؤية يساهم في الارتقاء بالطموح appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.