في جو ليلي صاخب، أضواء قوية ملونة تنبعث بسرعة البرق، تصعد نحو السماء ثم تتلاشى في الهواء، راسمة لوحات فنية رائعة، توحي بالفرح والبهجة، دخان مصطنع يصعد من الأرض، نحو منصة ضخمة في ساحة عمومية شاسعة، مكتظة بآلاف الجماهير، نساء، شباب، شيوخ، فتيات وفتيان، أطفال.. الكل في انتظار وترقب..
برهة؛ يسود صمت غريب يعم المكان، دقائق معدودة، ثم تهتز الجماهير بأصوات وأهازيج متنوعة ومتداخلة، كأنه زلزال هز الأرض، فإذا به يظهر سلطان مجموعة “أودادن”، يضع عمامة كبيرة على رأسه، ويحمل آلة “البانجو”، مرتديا جلبابا أنيقا، يتبعه الباقون يتجهون صوب أمكنتهم، كأنهم خرجوا من بين صخور جبال الأطلس الشاهقة والمانعة، إلى ساحة أسايس…
عبد الله الفوى، هادئ كأنه في خشوع الصلاة، يراقب باقي الأعضاء حتى يصطفوا استعدادا، لسفر موسيقي روحي، لا أحد يعلم مداركه ومنتهاه….
يعود الصمت إلى الأرجاء، بنقرة سريعة على “البانجو”، تهتز الأكتاف والأجساد وتعلو الأصوات الصيحات والزغاريد من طرف الجمهور، يستمر الهتاف والتهافت، تعيد أنامل عبد الله الفوى تعزف على أوتار البانجو، حتى تتضح معالم النغمات، ويتبعه أصحاب الإيقاع في سيمفونية جماعية منظمة، ومرتبة، كانضباط ضباط الصف، وببداهة، وفطرة، يتعرف الجمهور على الأغنية التي سيعزفها الفوى وهو بالكاد لم يتفوه بكلمة، يعزف، وينظر، ثم ينتظر، الجمهور يحفظ أغانيه كلها، وترسخت في ذاكرته، كما تحفظ النصوص المقدسة في الصدور، وتتناقلها الأجيال… جيلا بعد جيل..
وبعد ذلك، يتسارع الإيقاع وتتدفق الحنجرة الذهبية لزعيم “أودادن” بالموال والكلمات، ثم تنطلق عواصف إعصاريه فائقة من المنصة، وتشعل فيها نار الأحاسيس الدافئة والعنيفة بصوت يهز الأمكنة، ويزعزع دواخل الجمهور، وينفذ إلى الدواخل، إلى قلوب الرجال والنساء والشباب، فتيان وفتيات، وتتحرك الأجساد بدون حدود ولا قيود، كأنها تذوب في أمواج البحر العاتية…
هكذا ينتج “أودادن” فوق المنصة، قوة جارفة وخارقة من الأحاسيس بفضل الموسيقى الأمازيغية العميقة التي تذكر بتاريخ الأسلاف، لا أحد يستطيع إيقافها، إلا أنامل سلطان الحب والغزل والجمال، عبد الله الفوى الذي يجذب مريديه إلى حضرة صوفية، إلى ساحة الجذب والوجد، من أجل راحة القلوب، وإراحة العواطف، وشحن الأحاسيس، فموسيقى “أودادن” منذ نشأنها اختارت، أن تجلب الناس إلى معابد الحب والغزل والجمال، أخذت على عاتقها أن تصنع أنغامها وإيقاعاتها على تراتيل الحب والسعادة…
هل هي واعية أنه من رحم الموسيقى ولد الجمال والحب والغزل… وهل هي تدرك أن الثقافة الأمازيغية رديفة الحياة والسعادة والأمل والحب… بكل تأكيد إنها تدرك ذلك بكل يقين وبدون شك، لأن “أودادن” مدرسة موسيقية متأثرة بمدرسة تاشتوكت للرايس سعيد أشتوك، وبوبكر أنشاد… وليس مستبعد أن يتم اقتباس تسمية “أودادن” من قصيدة أنشاد حول أوداد الذي حلف باليمين والشمال أنه اصطاده وأكله في واضحة نهار يوم رمضان… وفي آخر القصيدة عاد ليقول إنه فشل فعلا في صيد ذلك “الأوداد” الجميل المانع الماهر والذكي… الذي يتغنى به كل شعراء الأمازيغ عبر التاريخ يمدحونه، ويتغزلون به لكنهم يفشلون في صيده وإدراكه…
إن الكتابة عن الفنانين والمبدعين الأمازيغ، بمختلف ضروب فنونهم، يعد أمرا في غاية الصعوبة، فسواء تعلق الأمر بفناني أحواش والشعراء والعازفين، أو تعلق الأمر بـ”الروايس وتيروايسين”، أو المجموعات الغنائية الأمازيغية المعاصرة المعروفة “بتيروبا”، تواجهنا صعوبات وإكراهات معقدة. وذلك لأسباب ذاتية مرتبطة بالفنانين أنفسهم الذين يختارون الصمت في غالب الأحيان ولا يهتمون بتدوين سيرهم الذاتية وتجاربهم الفنية، وأسباب موضوعية مرتبطة بالواقع الذي تعيشه الثقافة واللغة الأمازيغيتين التي تعاني من تهميش سياسي ممنهج، يجعلها على هامش الدولة وخارج مؤسساتها وسياساتها العمومية، على الرغم من كونها اللغة الحية للشعب والمجتمع، وحالة المغرب اللغوية والثقافية هي حالة نادرة وشاذة في العالم، أن تتبنى الدولة رسميا لغةً غير لغة الشعب، أن تخاطب الدولة شعبها بغير اللغة التي يفرح ويغني وينشد بها الشعب أغانيه وأشعاره وأهازيجه…
اخترنا الحديث في هذه المقالة عن مجموعة أمازيغية أسطورية تتربع الآن على عرش الأغنية الأمازيغية، صالت وجالت في العالم بأسره، تعزف أنغاما موسيقية أمازيغية وتهز بها مشاعر جمهور واسع وعريض، منقطع النظير في المغرب وخارجه.
خطوات “أودادن” الأولى.. من تاغجيجت إلى بنسرگاو
تعود أصول عبد الله الفوى الذي يترأس المجموعة التي تضم بعض إخوانه أيضا، إلى منطقة تاغجيجت، وبالضبط إلى منطقة تاگموت التي لا تزال أسرته تُعرف هناك بـ “إد الفوى”، كما تتحدر من عرش يسمى “إدهمو”. وتاغجيجت تقطنها قبيلة أمازيغية كبيرة توازن بين الترحال والاستقرار بفضل وجود الواحة والماء، وهي قبيلة إد براهيم المعروفة في الصحراء وتجوب مجالا واسعا وممتدا، تمارس الرعي والترحال في مجالات صحراوية شاسعة، وهي سليلة الحلف الصنهاجي الكبير الذي أسس إمبراطورية المرابطين وجعلوا من مدينة نول لمطة إحدى عواصمهم التجارية والسياسية وهي غير بعيدة عن واحة تاغجيجت، ولا تزال منطقة تاغجيجت تضم بعض الحصون والقلاع والآثار التي كان يستقر أو ينزل بها السلاطين وأمراء إيزناگن/ صنهاجة أثناء حكمهم. والحديث عن أصول رئيس مجموعة “أودادن” مهم جدا لفهم أسباب نجاحها وتفردها، لأن منطقة تاغجيجت وقبائل أمازيغ الصحراء بشكل عام، تتميز بعمق ثقافي وحضاري زاخر بالتنوع الفني والموسيقي والشعري، فهذه المناطق معروفة بأحواش، الذي يمزج بين الشعر/ تانظامت وبين الإيقاعات والدرست، خاصة العواد، أي الناي الذي يعد من بين المنابع الأساسية التي يستقي منها الشعراء و”الروايس” إيقاعاتهم وإلهامهم الموسيقي، فحينما نقول العواد/ الناي فإننا نتحدث هنا عن موسيقى الرعاة الرحل، الذين يعزفون الأنغام في الصحاري والبراري ويتحاورن مع الطبيعة ويصنعون الخيال الموسيقي والإبداعي الذي يتميز بكثافة الإيقاعات والأنغام الجميلة. وجل “الروايس” الأمازيغ الذين كانت لهم شهرة واسعة في تاريخ “تيرويسا” وشعراء أسايس تعلموا أمزاد/ الرباب وآلة لوتار عن طريق تمكنهم من عزف الناي وممارستهم الرعي في مرحلة الطفولة. “تعلمت العزف منذ الصغر، منذ سنوات الرعي، صنعت لوتار وبدأت التعلم به”. (الرايس المهدي بن مبارك في ذاكرة الموسيقى الأمازيغية).
ويبدو أن فنون أحواش المنتشرة في واحة تاغجيجيت وأحوازها، تأثر بها الفنان الفوى وإن لم تظهر بشكل مباشر، وإنما هي بنيات ثقافية لها امتدادات بالرغم من الهجرة المبكرة لأسرة الفوى إلى ضواحي أگادير، فهذه المناطق تمتاز بوجود الدرست والتييت أو الشعر الحر في أحواش، لا سيما أن الفوى ينتمي إلى تاگموت التي ينتشر فيها نوع من الرقص يسمى “تاحواشت ن تارحالت” الذي يمارسه الرعاة الرحل وهو مبني على قوة الكلمة الشعرية وحركة الجسد، وشعر “تارحالت” زاخر بتيمة الحب والتغزل بالجمال، وتوجد أشعار خالدة قديمة تتوارثها الأجيال في الصحراء، وليس من المستبعد أن ينهل منها رئيس “أودادن” ويوظف بعضها داخل أسلوبه الغنائي العصري.
هاجر والد الفوى مبكرا إلى ضواحي مدينة أگادير وبالضبط إلى حي بنسرگاو واسمه “محمد بن محمد بن الحبيب الفوى”، واشتغل في معمل ZARABA، إلى أن حصل فيه على التقاعد، وبحي بنسرگاو ولد ونشأ عبد الله الفوى وباقي إخوته. بدأت خطواته الفنية الأولى من الحي والدرب، وانطلق من الصفر كباقي الفنانين خلال جيل السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، في بداية شبابه امتهن إصلاح السيارات وصباغتها مثل جميع أقرانه، وانتقل إلى الصحراء بعد المسرة الخضراء واشتغل هناك مدة قصيرة ثم عاد إلى بنسرگاو، لكن عالم الموسيقى والإبداع استهواه، تعلم العزف على الآلات المتوفرة آنذاك “البندير/ تالونت” ثم العزف على “البانجو” بطرق تقليدية، وحسب روايات شفوية استقيناها من بعض الفنانين الذين بدؤوا مسارهم الفني خلال تلك الفترة، فإن عبد الله الفوى ظهر لأول مرة مع مجموعة موسيقية ظهرت في حي “بنسرگاو” تسمى مجموعة “تامونت”، وكانت مجموعة موسيقية تعزف على “البانجو” و”تالونت” و”الطامطام”، كباقي المجموعات التي ظهرت خلال السبعينيات، وكان عبد الله الفوى يعزف على “البندير/ تالونت” مع هذه المجموعة، وبعد ذلك استمروا في المشاركة في السهرات والحفلات الخاصة والأعراس وغيرها، كمجموعة من الشباب الذين يجمعهم القرب والسكن في الحي نفسه. بعد خروج عبد الله الفوى من “تامونت” التقى مع “محمد جمومخ” أحد المؤسسين لمجموعة أودان وكان له دور بارز في النشأة والمسار والبناء، وهو أيضا أي “جمومخ” كان ضمن مجموعة محلية في بنسرگاو تسمى “لاجدود”، ثم التحق بهم أحمد الفوى أخ عبد الله الذي كان هو الآخر عضوا ضمن مجموعة تسمى “إبارازن”، ثم التحق بهم “حسن أعطور” رحمه الله الذي كان هو الآخر ضمن مجموعة أخرى في بنسرگاو تسمى “إمزواگن” كان يعزف على “البانجو” ويغني أيضا، وبعد ذلك التحق بهؤلاء الفنان “العربي أمهال”، وأسسوا مجموعة موسيقية تتكون من خمسة أعضاء وهم المؤسسون الحقيقيون لإودادن، أطلقوا على أنفسهم التسمية الأولى وهي “أدجران” في ما بين سنتي 1977 و1978، وكانت أعمار أعضاء المجموعة آنذاك تتراوح بين 18 و25 سنة (حسب شهادة عضو مؤسس للمجموعة وهو محمد جمومخ).
لم تستمر تسمية “أدجارن” وقتا طويلا فكانت لحظة عابرة وقنطرة صغيرة نحو الأفق الجديد، لأنها لم ترق لعبد الله الفوى الذي اقترح تسمية جديدة وهي “أودادن”.
للإشارة فقد كانت مجموعة أخرى سابقة عن أودادن في بنسرگاو تسمى “إزنگاض”، فبدأت المجموعة في تنشيط والمشاركة في الأعراس والأمسيات الخاصة وسهرات الأحياء، وكانت تغني بعض الأغاني الشعبية المشهورة آنذاك المتميزة بالبساطة والتي يمكن تسميتها بالخالدات في فن الشعبي الأمازيغي، مثل أغاني الشاعرة “تارخوت” التي غنى أشعارها الفنان عبد العزيز الشامخ، وهي أغان شعبية غزلية أضافت لها مجموعة أودادن بعض التحسينات والإيقاعات السريعة، مثل “أمزاتيي أدور ضرغ…، ماداوا گيتي تنيت أمحمد ن عمتي تيدينو زوند أغانيم أزار ادرض أر أكال، والْن اينو زوند الكيسان إمينو زود الربوع أفوس أفردو واتاي أضار القالب ن السكر..”.
في بنسرگاو اختمرت الخلفية الفنية الصحراوية لمجموعة “أدوادن” في مرحلة النشأة بإيقاعات أخرى التي تشكلت بفعل الهجرة القروية الكثيفة نحو ضواحي المدن، فكان عامل الهجرة حاسما في انسجام الإيقاعات وتنوعها فأعضاء المجموعة يتحدرون من أصول مختلفة، تاغجيجت وتامراغت والمزار وأشتوكن، وانصهرت الإيقاعات والأنغام، خاصة الإيقاع “الهوراي” الذي تأثرت به المجموعة لأسباب كثيرة أهمها القرابة العائلية والحي الذي يضم تشكيلات اجتماعية وثقافية مختلفة، لأن الحي أو “الدرب” أو “الحومة” كانت تعيش في سنوات ما بعد الاستقلال، إرهاصات هوية/ تعبيرات ثقافية جديدة قيد التشكل في ضواحي بعض المدن الصناعية كما هو حاصل في الحي المحمدي بالدار البيضاء الذي اشتهر بصناعة فنية وموسيقية مميزة عرفت بظاهرة “الغيوان”، والدشيرة في أكادير التي كانت منارة ومشتلا للروايس، ثم لظاهرة “تازنزارت”، إضافة إلى الإيقاع الهواري السريع الذي كان يتناسب مع عنفوان موسيقى الشباب آنذاك وقد جربت “أودادن” تسجيل بعض الأغاني “الهوارية” لكنها لم تستمر.
وقد تأثرت مجموعة “أودادن” في بداياتها الأولى بالنمط الموسيقي الشعبي المشهور في المزار، فهو نمط موسيقي أمازيغي يتميز بسرعة الإيقاع، وهناك انبثقت مجموعة أخرى عاصرت سياق ظهور “أودادن” وهي مجموعة “آيت العاتي” التي تتقاسم مع “أودادن” نفس الأسلوب الغنائي. في تلك المرحلة أي بداية الثمانينيات كانت “أودادن” في سفر موسيقي دائم للبحث عن الهوية والأسلوب والتميز… لأنها كانت مرحلة التجريب وصقل المواهب والبحث عن الفرادة، ولو أنها كانت تتحرك في فضاءات محلية وتغني في الأعراس والمواسم الدينية وغيرها، فهي لم تنتقل بعد إلى مرحلة الاحتراف، فمن سنة 1980 إلى 85 كانت “أودادن” تبحث عن نفسها تبحث عن حقيقة وجودها، وساعدتها ظروف كثيرة، قادتها إلى المجد والشهرة، أولها عبقرية أعضائها خاصة عبد الله الفوى، ثم لمسة المرحوم حسن أعطور الذي أحدث ثورة فنية داخل المجموعة قادتها إلى تسجيل ألبومها الأول سنة 1985 وولجت به مجموعة “أدوادن” أبواب الاحتراف والتألق والشهرة، بمساعدة المرحوم “عمر المعاريف” صاحب الشركة التي قامت بتسجيل أول ألبوم “أودادن”، إذ قام بعمل جبار من أجل إقناع أعضاء المجموعة لتسجيل الألبوم وساعدهم تقنيا ولوجستيا من أجل التسجيل لما لاحظه من آفاق النجاح التجاري والموسيقي في ذلك، نظرا للأسلوب الغنائي الجديد آنذاك الذي كانت تتميز به “أودادن”، والتي كانت أشرطتها تباع في سوق إنزگان بكثافة لكنها يتم تسجيلها بطرق تقليدية جدا أثناء السهرات والأعراس.
الفوى وأعطور.. ثورة داخل التجديد
لفهم ظاهرة “أودادن” التي انفجرت في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، لا بد من فهم السياق الذي أفرز هذه التجربة الموسيقية التي قلنا إنها بدأت في حي بنسرگاو المهمش بضاحية أگادير، وصنعت مجدا خارقا في مسارها الطويل، فهذا السياق هو عقد السبعينيات الذي شهد هو الآخر انفجارا موسيقيا في تاريخ الفن الأمازيغي، ببروز نمط جديد في الساحة الفنية ينافس نمط “الروايس،/ تيرويسا” والذي كان مهيمنا في المجتمع السوسي من الصحراء إلى دمنات إلى تازناخت ثم إلى ايحاحان مرورا بأحواز إمي نتاونوت ونسجيها القبلي، فكانت عاصمة “الروايس” في البداية هي مراكش بفضل وجود الباشا الگلاوي الحاكم الأمازيغي الذي يعشق هذا الفن، والذي ساهم بشكل كبير في تطوير مدارس “تيرويسا”، منذ الحاج بلعيد إلى أموراك، ومن مراكش ظهرت “تيرويسا” في الدار البيضاء ثم برزت مدارس أخرى في الدشيرة التي أصبحت فضاء مستقطبا للروايس بعد انهيار مجد الباشا الگلاوي الذي حاربته أوساط سلفية محسوبة على الحركة الوطنية. وكان عقد الستينيات هو عقد “الروايس”، الذين يهيمنون على الساحة الفنية مثل أمنتاگ وألبنسير وغيرهم. ومع حلول عقد السبعينيات وصلت إلى سوس موجة أخرى، بأسلوب جديد، هي موجة المجموعات الموسيقية الأمازيغية، التي قامت بتجديد بنيوي في مدارس “تيرويسا”، بإدخال آلة “البانجو” و”السنتير” إلى الآلات الموسيقية إضافة إلى “البندير/ تالونت”، والناقوس التي كان “الروايس” يستعملونها في أغانيهم وألحانهم.
في هذا السياق ظهرت مجموعات في الدشيرة وإنزکان والمزار، بداية بمجموعة “تابغاينوست” في الدشيرة، ومجموعة “تيتار”، و”إيموريگن”، ومجموعة “تاوادا”، و”لاقدام” في تاراست، و”إزنزارن” في إنزکان والدشيرة، قبل أن تنقسم إلى مجموعة عبد الهادي والشامخ، ومجموعة “إيزمازن” ثم مجموعة “أوسمان” بالرباط والتي كان لها أسلوب جديد مغاير لما هو في سوس، ثم ظهرت مجموعة “أرشاش” في الدار البيضاء يقودها شاعر كبير وهو مولاي علي شوهاد، وأضافوا لمسة فنية وموسيقية لهذه المجموعات لأنها تنهل من إيقاعات “أحواش إيسافن” و”ابركاك” وتعتمد على قوة الكلمة الملتزمة والهادفة والرمزية، على شاكلة مجموعة “إزنزارن”.
ظهرت مجموعات عديدة، أغلبها اختفى لأسباب كثيرة، لكن ما ميز مجموعات السبعينيات هي أنها تسير في المنحى نفسه الذي اتجهت فيه مجموعات أخرى في الدار البيضاء، وخاصة ظاهرة “الغيوان”، التي كانت تستجيب لسياق السبعينيات الذي عاش فيه المغرب أوضاعا سياسية وصعبة، انعكست على الفن في إنتاج نمط موسيقي يتماشى مع السياق الداخلي والدولي، في إنتاج أنماط موسيقية وفنية ملتزمة تدعو إلى الثورة وتوعية الشعب بحقوقه ومسؤوليته في النهوض لتغيير الوضع. فكانت كل المجموعات الغنائية التي ظهرت خلال عقد السبعينيات تنهل من نفس الأفكار والتيمات وتشتغل على نفس المواضيع السياسية والملتزمة. وكانت مدرسة “تازنزارت” هي المهيمنة والأكثر شيوعا وشهرة في سوس وخارجه، بألحان راقية وكلمات ملتزمة مشحونة برسائل سياسية وثورية، ومتخمة بالرمزية، تنتقد الوضع السياسي والاجتماعي وتطمح إلى التغيير عن طريق الموسيقى، وساهمت موهبة عبد الهادي إيگوت في العزف على “البانجو” وألحانه العذبة وصوته القوي في الارتقاء بالأغنية الأمازيغية إلى مستويات عالية جدا، ونافس بشدة ظاهرة “الغيوان” التي يبدو أنه تفوق عليها في الألحان والعزف والأداء…
مع نهاية السبعينيات، بدأت ملامح نمط موسيقي جديد تظهر في الأفق مع مجموعات موسيقية في الأحياء الهامشية والضواحي، ولكنها تركز على أغاني “الشعبي” والغزل والحب دون أن تهتم بما هو ملتزم، أو سياسي واجتماعي وثوري، تغني من أجل الفرح والسعادة والحب، وفي غضون ذلك، كما أشرنا أعلاه، ظهرت مجموعة “أودادن” بعد عملية تجميع أعضاء كانوا ينتمون إلى مجموعات موسيقية أخرى في حي بنسرگاو. فقد توفقت كثيرا في ملء الفراغ داخل الساحة في ما يخص أغاني الحب والعشق والغزل.
لكن ما ميز مجموعة “أودان” عن غيرها وعن من سبقها من المجموعات هو التجديد الذي أضافته إلى مدارس “تاگروبيت”، ليس فقط في تغيير المواضيع وإنما في الأسلوب والإيقاع الموسيقي، وذلك بإدخال آلة “الگيتار، “Guitare Électrique إلى الآلات التي تستعملها المجموعات الموسيقية إلى جانب آلة “البانجو”، فحين انضم الفنان المرحوم حسن أعطور إلى مجموعة “أودان” أعطى لها نفسا موسيقيا جديدا وجذابا، لأن المرحوم أعطور كان من بين الأوائل الذي يعزفون على هذه الآلة آنذاك وبإتقان كبير، على الرغم من كونه كان عضوا في مجموعة “إمزواگن” التي كان يعزف فيها على “البانجو” كما كان يقوم بالأداء الغنائي، وكان عازفا مهاريا وموهوبا، بل كان المثقف الوحيد ضمن المجموعة، لأنه هو الوحيد الذي حصل على شهادة الباكالوريا في تخصص الآداب الإسباني، وكان يمارس الموسيقى كإبداع وموهبة ومعرفة، وأيضا كباحث يتعمق في البحث الموسيقي وفي الأمور التقنية والصوتيات، وحين التحق بمجموعة “أودادن” أفادهم كثيرا، فنيا وموسيقيا وتقنيا.
وبسرعة انسجم عبد الله الفوى الذي يعزف على “البانجو” مع أعطور العازف على القيثارة، كما حصل انسجام كبير بين أحمد الفوى في تالونت ومحمد جمومخ في “الطامطام”، والعربي أمهال في الناقوس، هذا التكامل الموسيقي في الإيقاعات والألحان هو الذي صنع تميز وفرادة “أودادن” وسرعة انتشارهم، منذ تسجيل أول ألبوم سنة 1985 ثم ظهورهم على شاشة التلفزة المغربية سنة 1986 أثناء مشاركتهم في سهرات الأقاليم التي كانت تبث على التلفزة، وشاركت “أودادن” في سهرة مدينة تزنيت التي كان أداؤها فيها مبهرا شد انتباه المغاربة قاطبة بأسلوبها الغنائي الأمازيغي السريع والمتناغم والجميل.
أشرنا هنا إلى دور الفنان المرحوم “حسن أعطور” عرفانا له واعترافا لما قدمه لمجموعة “أودادن” وللموسيقى الأمازيغية، والشيء نفسه ينطبق على جميع الأعضاء المؤسسين لهذه التجربة الموسيقية الفريدة، لأن الفن والموسيقى هو مجهود وعمل جماعي مشترك، يشارك فيه الجميع، بالرغم من كون أن عبد الله الفوى هو رئيس المجموعة، إلا أن ذلك لا يجب أن يخفي موهبة ولإبداع ومجهودات الآخرين…
فانطلقت شهرة “أودادن”… في كل الآفاق، لأن الجمهور الأمازيغي كان متعطشا لأسلوب “أودادن” الذي يرون فيه استمرارا للرمزية الشعرية الأمازيغية في الغزل والحب والجمال والسعادة التي اشتهر بها الرايس ألبنسير وسعيد أشتوك وآخرون…
“أودادن” العالمية.. استمرارية السحر
بعد تسجيل “أودادن” للألبوم الأول، “ماداغ ايسلان ايزنگاض”، وبعد مرورها في التلفزة، طافت شهرة المجموعة في المغرب وخارجه، وشاركت في سهرات كثيرة، في كل من الدار البيضاء، وبني ملال وأكادير والرباط، وسلا، ومراكش وغيرها من المدن المغربية. وانتقلت إلى خارج المغرب بدءا بمشاركتها في مهرجان تونس، وفي سنة 1988 تلقت المجموعة دعوة للمشاركة في سهرات تجوب دول أوروبية وهي فرنسا وبلجيكا وهولاندا، ثم تلتها جولات أخرى في أمريكا سنة 1998 والبرازيل، ثم شاركت في مسابقة موسيقية في فرنسا ضمن 400 مجموعة موسيقية عبر العالم، واحتلت فيها “أودادن” الرتبة الثالثة بعد فرقة موسيقية من إسبانيا وأخرى من الهند، وذلك سنة 2005.
وطافت مجموعة “أودادن” بالموسيقى الأمازيغية مختلف بلدان المعمور في إفريقيا بمشاركتها في مهرجان مالي سنة 2007، ورحلت إلى تانزانيا، وإندونيسيا وغيرها، كما شاركت في أمسيات عديدة في بلدان أوروبية خاصة فرنسا وبلجيكا..
من بين أسرار نجاح “أودادن” واعتلائها اليوم عرش الأغنية الأمازيغية هو الاستمرارية في الإنتاج وغزارته، فمنذ طرحها للألبوم الأول سنة 85 فإن المجموعة حرصت دائما على طرح جديدها في الساحة الفنية تقريبا كل سنة، كانت تنتج ألبوما واحدا خلال كل عام، إضافة إلى حضورها الدائم والمستمر في مختلف المهرجانات والمناسبات والأعراس والأحداث الفنية، فالمجموعة لم تتأثر بانسحاب أو مغادرة بعض أعضائها، فقد ظل رئيسها عبدالله الفوى حريصا على الاستمرارية على الرغم من تغيير بعض أعضاء المجموعة، لأسباب وظروف مختلفة، فقوة الصمود والإنتاج الغزير ومقاومة التغيرات والتحولات والصراعات الداخلية هي التي جعلت “أودادن” تحافظ على أسلوبها واستمراريتها في الساحة. فمختلف المجموعات الموسيقية تعرضت لهزات وانشقاقات داخلية تأثرت بها بشكل من الأشكال، إلا مجموعة “أودادن” حافظت على وحدتها ونجحت في تطوير أسلوبها الغنائي ونسقها الموسيقي….
إن أسلوب “أودادن” الغنائي، نابع بلا شك، من التراث الفني الأمازيغي الذي ينشد الحب والسعادة والمبني على التغزل بشكل رمزي، وقد نجحوا بالفعل في ملامسة الشعور الموسيقي الدفين لدى الأمازيغ في سوس، وقد تفطنوا لذلك، في ما حققه كل من الرايس محمد ألبنسير والرايس سعيد أستوك الذي أسس مدرسة فنية داخل “تيرويسا”، وأحدث ثورة في التمرد على المجتمع المحافظ الذي كان يفرض قيودا دينية وثقافية على الشعر الغزلي، أو النظم حول “تايري، أو أمارگ/ العشق”، مستفيدا هو الآخر من فنون أجماك الغنية بالإيقاعات والألحان الموسيقية المتنوعة.
فعبد الله الفوى يستقي كلماته من شعراء كبار من بينهم سعيد أشتوك، مثل أغنية “أياتبير إيگان أزروال”، ومن بوبكر أنشاد، ومن الشاعر والرايس حماد أوتمراغت والشاعر بانضاج، وصالح الباشا، وغيرهم من الشعراء، ولكن قوة عبد الله الفوى لا تتجلى فقط في أخذ الكلمات وإنما في الاقتباس والتركيب وإعادة ترتيب الكلمات وتوظيفها بشكل جيد وراق في قالب موسيقي موزون وبلحن جميل وجذاب ومتوازن يتناغم مع الموضوع ومع الغرض الشعري، ثم مع وثيرة الصوت. لأن سحر الفوى يكمن في هذا التراكب التوظيفي للكلمات والألحان والموال في قالب موسيقي متكامل.
فالأداء عند عبد الله الفوى داخل مجموعة “أودادن”، هو أداء تتكامل فيه جميع شروط الإبداع الموسيقي، فهو يجدد باستمرار داخل نسق “تاگروبيت” الذي يظهر أنه استنفذ مهامه، لكن مع مجموعة “أودادن” التي تجاوز عمر أعضائها 60 سنة، فإنهم يستقطبون آلاف الشباب والمراهقين في صفوف النساء والذكور، الذي يتراقصون بأغانيهم وتزدهر أجسادهم وتتحرك بأنغامها، فذلك ما نسميه بالسحر الأسطوري الذي يتدفق من هذه المجموعة الغنائية الفريدة التي لا تزال في قمة العطاء والإبداع لما يزيد عن 40 سنة…
فنحن كأمازيغ، كشعب مر من قساوة الظروف التاريخية، جعلت لغتنا تقاوم لمدة قرون طويلة، من أجل البقاء والصمود، لنا أن نفتخر بمجموعة “أودادن” وبكل المجموعات الغنائية وبكل الشعراء والشاعرات والمبدعين والمبدعات… فلولا هؤلاء… لضاعت اللغة والثقافة والحضارة الأمازيغية.
The post مجموعة “أودادن” الأمازيغية .. من رحم الموسيقى يولد الجمال والحب والغزل appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.