يرى الدكتور محمد عصام لعروسي، المدير العام لمركز منظورات للدراسات الجيو-سياسية بالرباط، أن دراسة دوافع ومحركات الهجرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تُعَدّ من المواضيع المرتبطة بالديناميات الإقليمية والعالمية، التي ساهمت في تغيير الحركات الهجروية عَبْر الانتقال من لحظة المرونة والانسيابية وتعزيز حركة مرور البشر بين الضفة الجنوبية والشمال المتقدم إلى تدعيم الإجراءات القسرية والاحترازية، التي تجعل من الهجرة عبئاً ثقيلاً على الدول المستقبِلة، وخاصة بعد توالي الأزمات السياسية والاقتصادية وتصاعُد العنف والنزاعات المسلحة وصعوبة مراقبة الحدود.
وأكد الدكتور المغربي، في مقال نشر على منصة أبعاد للدراسات الإستراتيجية بعنوان “محرّكات الهجرة وارتداداتها في شمال إفريقيا والشرق الأوسط”، أن “منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تمثل واحدة من أبرز مناطق العالم في ما يتعلق بالهجرة الدولية، بحيث تتواجد العديد من أنظمة الهجرة بشكل مشترك ومتداخل”، لافتا إلى أنه “في منطقة المغرب العربي شهد المغرب وتونس والجزائر تجارب هائلة لهجرة العمالة إلى أوروبا منذ الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وكانت الحكومات المتعاقبة تعمل بشكل واضح على عملية تسهيل التنقل بشكل فعّال من أجل إدارة مستويات البطالة والدفع إلى تحقيق أقصى قدر من الموارد المالية للاقتصاد الوطني من خلال تحويلات المغتربين”.
وسجل لعروسي أن “الهجرة شكلت انطلاقاً من دول شمال إفريقيا هاجساً أمنياً كبيراً لدى الدول الأوروبية، إذ أصبحت الهجرة من خلال الحدود البرية والبحرية مصدر قَلَق متصاعد خلال مرحلة “الربيع العربي” الذي شمل تونس وليبيا ومصر، وهو ما أجبر الحكومات على مراجعة سياسات الهجرة الخاصة بها حول اللاجئين وملتمسي اللجوء للاستجابة لأمواج المهاجرين العابرين عَبْر البلد”.
نص المقال:
إن دراسة الاتجاهات العامة للهجرة ودوافعها ومحرِّكاتها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تُعَدّ من المواضيع المرتبطة بالديناميات الإقليمية والعالمية، التي ساهمت في تغيير الحركات الهجروية عَبْر الانتقال من لحظة المرونة والانسيابية وتعزيز حركة مرور البشر بين الضفة الجنوبية والشمال المتقدم إلى تدعيم الإجراءات القسرية والاحترازية، التي تجعل من الهجرة عبئاً ثقيلاً على الدول المستقبِلة، وخاصة بعد توالي الأزمات السياسية والاقتصادية وتصاعُد العنف والنزاعات المسلحة وصعوبة مراقبة الحدود، وهذا ما دفع العالمَ الغربيَّ مع صعود التيارات اليمينية المتطرفة إلى تشديد الخناق على الهجرة غير الشرعية وتقليص حظوظ الهجرة النظامية، بعدما ساهم المهاجرون في بناء الحضارة الغربية بجهدهم وعرقهم، حيث تعالت الأصوات المتطرِّفة لمنع هذه الحركات الهجروية بعيداً عن الأبعاد الإنسانية والاقتصادية للهجرة، وتحولت السياسات الغربية إلى معول هدم لكل موجات الهجرة القادمة من الجنوب.
يُشكّل سكان شمال إفريقيا غالبية المهاجرين الأفارقة إلى أوروبا، وتضم المراكز الثلاثة الأولى – المغرب والجزائر وتونس – فأكثر من 5 ملايين من أصل 11 مليون مهاجر إفريقي في أوروبا. وهذا يؤكد أهمية القرب الجغرافي والحضاري، ووجود مجتمعات مهاجرة راسخة، والفرص الاقتصادية كعوامل “جذب” رئيسية تؤثر على عملية صنع قرارات الهجرة[1].
وقد أدت عمليات إغلاق الحدود بسبب “كوفيد-19” إلى تقطُّع السُّبُل بعشرات الآلاف من المهاجرين في أنحاء إفريقيا[2]، وخسر الكثيرون وظائفهم، ومنازلهم وكل ما يملكون، وحتى بعد إعادة فتح الحدود أثرت القيود المستمرة المفروضة على السفر والصحة على إمكانية التنقل لكل من المهاجرين النظاميين وغير النظاميين [3]. وبينما أصبحت المعابر من ليبيا إلى أوروبا أكثر صعوبة تحولت الهجرة غير النظامية نحو أوروبا إلى أقصى الغرب نحو المغرب وجزر الكناري[4]، حيث يواجه المهاجرون الذين يحاولون مغادرة ليبيا انتهاكات مستمرة لحقوق الإنسان واعتقالات.
في هذه الورقة نحاول تسليط الضوء على المحرِّكات والدوافع الأساسية لحركة الهجرة داخل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والتحوُّلات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي دفعت بشكل مباشر نحو تنشيط وزيادة دينامية الحركات المهاجرة القادمة من البلدان الأصلية التي تعيش حالة بؤس سياسي واقتصادي، وتوالي الأزمات الهيكلية والبِنْيَوية داخل دول المنطقة، باعتبارها ارتدادات وتداعيات للهجرة وعوامل دافعة لها في الوقت ذاته.
أولاً: محرِّكات الهجرة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
تمثل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا واحدة من أبرز مناطق العالم في ما يتعلق بالهجرة الدولية، حيث تتواجد العديد من أنظمة الهجرة بشكل مشترك ومتداخل (البلدان المصدِّرة للعمالة في المغرب والمشرق، ودول مجلس التعاون الخليجي المستورِدة للعمالة، والبلدان المصدِّرة للعمالة وبلدان العبور، إلخ). وفي منطقة المغرب العربي على سبيل المثال شهد المغرب وتونس والجزائر تجارب هائلة لهجرة العمالة إلى أوروبا منذ الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وكانت الحكومات المتعاقبة تعمل بشكل واضح على عملية تسهيل التنقل بشكل فعّال من أجل إدارة مستويات البطالة والدفع إلى تحقيق أقصى قدر من الموارد المالية للاقتصاد الوطني من خلال تحويلات المغتربين. بل إن بعض الحكومات في هذه البلدان جعلت الهجرة جزءاً لا يتجزأ من إستراتيجيات وخُطَط التنمية في بلدانها، حتى قيام الحكومات الأوروبية منذ عام 1973 بإغلاق أبوابها أمام هجرة العمالة وتقليص نسب العمال القادمين من جنوب المتوسط[5].
من نافلة القول التذكير بأن محرِّكات الهجرة كانت لدوافع اقتصادية في البداية، وساهمت الحكومات في منطقة شمال إفريقيا في جعل هذه الدينامية لصالح اقتصاداتها الوطنية، لكن هذا لا يمنع من القول إن الدوافع الأخرى كانت لها الأهمية نفسها، وتتجلى في المحرِّكات السياسية والأمنية والعسكرية.
المحرِّكات السياسية وتعثُّر مسار التحوُّل الديمقراطي
بعد مرحلة الربيع العربي والسنوات التي تلتها مباشرة تمكنت القوات العسكرية والأمنية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من الاعتماد على قائمة من التكتيكات لاستعادة النظام السياسي التقليدي سطوته أو إدارة المرحلة الانتقالية بشروطها الخاصة، إما من خلال القوة أو من خلال الاستفادة من مكانتها كمؤسسات وطنية.
وقد تحرك الناشطون المدنيون والسياسيون في اتجاه التحول الديمقراطي في كل من مصر وتونس وليبيا، وانتهى الأمر بصعوبة الانتقال الديمقراطي في تونس، ورجوع المؤسسة العسكرية للسلطة في مصر، واستمرار الحرب الأهلية في ليبيا. لكن عام 2019 اندلعت مظاهرات سياسية حاشدة مرة أخرى في مختلف أنحاء العالم العربي، بشكل مشابه لما حدث عام 2011، وكانت الدوافع نفسها تقريباً هي المتحكمة في مجمل الحراك الاحتجاجي. وانتهت هذه الموجة برجوع الدولة السلطوية للمشهد السياسي من جديد، وهذا ما يؤكد أن عقارب الساعة السياسية رجعت للوراء في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وأن العلاقة بين الحُكّام والمحكومين خضعت لتغييرات طفيفة، ليست عميقة كما كانت تأمل شعوب الحَراك[6]. هذه المعطيات السياسية المتغيرة بناء على تحوُّلات النَّسَق الدولي والإقليمي وأزمة كورونا، واستمرار القمع السياسي والتضييق على الحريات، ساهمت في الإقبال الكبير على الهجرة والنزوح من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى دول الشمال المتقدم.
البحر الأبيض المتوسط الطريق الأخطر في العالم
حَسَب العديد من الخبراء تحوَّل البحر الأبيض المتوسط إلى الطريق الأخطر في العالم، كما وصفته أيضاً المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إذ غرق فيه ما يزيد عن 3400 مهاجر سنة 2014 حسب المرصد المتوسطي لحقوق الإنسان والهجرة. لكن المعطى الجديد هو دخول الجنسية السورية على الخط كجنسية جديدة في عرض المتوسط بين ليبيا وإيطاليا، بعدما كانت مقتصِرة على شعوب المنطقة المغاربية والإفريقية[7].
بُلدان شمال إفريقيا معبر للهجرة في اتجاه أوروبا
شكلت الهجرة انطلاقاً من دول شمال إفريقيا هاجساً أمنياً كبيراً لدى الدول الأوروبية، إذ أصبحت الهجرة من خلال الحدود البرية والبحرية التونسية مصدر قَلَق متصاعد خلال مرحلة “الربيع العربي” الذي شمل أيضاً ليبيا ومصر. وفي تونس تضاعفت الهجرة غير النظامية عَبْر الحدود البرية بسبب انعدام الأمن على الحدود، ما أجبر الحكومةَ التونسيةَ على مراجعة سياسات الهجرة الخاصة بها حول اللاجئين وملتمسي اللجوء للاستجابة لأمواج المهاجرين العابرين عَبْر البلد. كما دفع عدم الاستقرار السياسي في تونس بعض المهاجرين إلى البحث عن وجهات أكثر أمناً، وخاصة الضفة الشمالية من المتوسط، حيث الاستقرار الاقتصادي والفرص الاقتصادية السانحة.
وعلى غرار بُلدان شمال إفريقيا الأخرى تأثرت مصر بتدفُّقات الهجرة، إذ تستقبل المهاجرين من دول شمال إفريقيا، وإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى والشرق الأوسط، الذين يختارون الاستقرار في البلد أو العبور من خلاله. ونتيجة لذلك اتخذت الحكومة المصرية تدابير لمعالجة الوصول غير النظامي إلى البلد، وخاصة عَبْر الحدود الليبية المصرية التي تصعب مراقبتها وتحولت إلى ملاذ للمهربين ووكلاء الاتِّجار بالبشر. وقد ساهم عدم الاستقرار خلال مرحلة “الربيع العربي” في التأثير على تدفُّقات الهجرة، إذ كان المهاجرون المتوجِّهون إلى أوروبا أو الشرق الأوسط يستخدمون مصر أساساً كدولة عبور وليس كبلد استقرار. وبالمقارنة مع شرق إفريقيا وغربها، وفي شمال إفريقيا، تتمتع ليبيا بأعلى عدد من المهاجرين، في حين أن مصر لديها أعلى عدد من اللاجئين في ذلك الإقليم[8].
وتتميز منطقة شمال إفريقيا بمحرِّكات نزوح وهجرة معقَّدة، فلطالما كانت تونس والمغرب والجزائر ومصر من البُلدان الأصلية للمهاجرين المتجهين إلى أوروبا، وتطورت تدفُّقات الهجرة مع مرور الوقت، وهي تتحول اليوم إلى بُلدان المنشأ والعبور والمقصد لمختلف المهاجرين من دول جنوب الصحراء الكبرى الإفريقية. إن التدابير الحدودية التي اتُّخذت، وتتراوح بين الأسوار الحدودية وتمرير الاستثمارات لتوظيف معدات المراقبة وتشديد القوانين التي تجرم الهجرة إلى الخارج أوروبا من خلال دول شمال إفريقيا، جعلت مسألة الهجرة والنزوح أكثر صعوبة، وقد ساهم هذا الأمر بدوره في ارتفاع أعداد المهاجرين نحو هذه البلدان. وتختلف دوافع المهاجرين الذين يصلون إلى بلدان شمال إفريقيا واحتياجاتهم للحماية بموجب القانون الدولي[9].
ونظراً لمحدودية المعايير والأنظمة التشريعية واللوائح فإن وضع أنظمة للهجرة من قِبل بلدان الاستقبال وتوفير الحماية للمهاجرين واللاجئين في هذه البُلدان يتعرض لضغوطات دولية. وقد ساهمت الأزمة الصحية “كوفيد-19” في تفاقُم العديد من التحديات السياسية والاقتصادية القائمة في هذه البُلدان، بما في ذلك ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب، وتدهور الخدمات العامة، وانتهاكات حقوق الإنسان، ومجموعة من تحديات الحكم والفساد.
إجمالاً تشهد دول شمال إفريقيا تقاطُع العديد من التحوُّلات السياسية التي تجعل من عودة الأنظمة السلطوية مشهداً طبيعياً، بما في ذلك الارتداد والتراجع عن الخيار الديمقراطي، وتشبُّث الأنظمة بتدبير السياسات العمومية بعيداً عن معايير النجاعة وتقديم الخدمات الأساسية لمجتمعاتها. وإفلاس هذه البُلدان في تقديم الاستجابات الضرورية لمواجهة تردِّي الأوضاع السياسية والاجتماعية بعيداً عن تأثير الأيديولوجيا جعل من خيار الهجرة مرة أخرى اختياراً أساسياً لدى نسبة كبيرة من سكان الإقليم، وخاصة الشباب، كما أن عدم الاستقرار السياسي في بُلدان أساسية كليبيا وتونس ينعكس على صعوبة مواجهة تحديات الهجرة، نتيجة ترسُّخ آليات سياسية تميل إلى الاستبداد، وتنهج سياسة الأمر الواقع.
قد تكون معارضة أنظمة الحكم أحد أسباب الهجرة لكنها في أغلب الأحيان لا تدفع بالموجات العالية من المهاجرين، وتقتصر في أغلبها على فئات معينة ناشطة في المجال السياسي، إلا أن الأزمات السياسية وما تنتجه من حروب أهلية وصراعات على السلطة تدفع بالسكان للهجرة نحو أماكن أكثر أمناً. ولعل هذا ما يُلاحَظ بشكل كبير في القارة الإفريقية التي تعاني من عدم استقرار سياسي، وتشهد دينامية مرتفعة للهجرة منذ فترة طويلة من الزمن، ساهمت في تشكيل علاقات خاصة بين دولها والمناطق الأخرى المجاورة[10].
الدوافع العسكرية وفشل السياسات الأمنية
بالنظر إلى ارتفاع كثافة التغيير في بِنْية النظام الدولي فإن هذا بدوره يعني ضمنياً أن أنشطة السكان من المرجَّح أن تتأثر إيجاباً وسلباً بالتغيير الذي يطال النخب السياسية والصراعات المجتمعية واتِّساع الهُوَّة بين النُّخَب الحاكمة والمحكومة. ولذلك فإن دراسة تأثير العوامل الديموغرافية أمر أساسي في أي نهج متكامل للأمن، إذ إن هناك ارتباطاً واضحاً بين الاتجاهات الديموغرافية واتجاهات الهجرة، حيث تشكل أحد أهم المتغيرات عند دراسة النمو السكاني. وبالتالي فإن تدفُّقات الهجرة قد تزيد من الضغوط الديموغرافية التي تواجه الدول والمجتمعات، لذلك ليس من قَبيل الصدفة أن تنظر الشعوب الأصلية في الدول المضيفة إلى الهجرة على نطاق واسع باعتبارها تشكل تهديداً لأمنها الوطني، فضلاً عن كونها تهديداً واضحاً للاستقرار الدولي[11].
ولهذا فإن التداعيات الأمنية والعسكرية والسياسية والمجتمعية والاقتصادية والبيئية الناجمة عن زيادة الهجرة لديها القدرة على تعزيز تأثير التداعيات الأمنية. والأهم من ذلك أن اتجاهات الهجرة -بسبب طابعها السياسي والأمني- أصبحت مسألة تتعلق بالسياسات العمومية المحلية والدولية، على سبيل المثال صعود الأحزاب السياسية المناهِضة للمهاجرين وزيادة الطلب على سياسات مكافحة الهجرة.
وتمثل العلاقة بين الهجرة والأمن تحدياً كبيراً لارتباطهما بمفاهيم ذاتية بطبيعتها، ومتداخلة ومعقدة لدرجة كبيرة، الأمر الذي يضع موضع استفسار مَن يحدد المصطلحات ومَن يستفيد من تعريفها بطريقة أو بأخرى [12].
وزادت عوامل انهيار الأوضاع الأمنية في بعض دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بالإضافة إلى تداعيات أزمة جائحة كورونا، من معاناة المواطنين في هذا الإقليم، بل إنها ساهمت في تعقيد أوضاع المهاجرين في منطقة تعرف أزمات بِنْيَوية ونزاعات مسلحة لا حدود لها، وأزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية وهجرة غير نظامية أو سرية، ولاجئين بالملايين لم تنجح الإجراءات الأوروبية الحازمة وسياسات الترحيل القسري في منعهم، تماماً كما لم ترهبهم مخاطر ركوب البحر في قوارب الموت.
وكان مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة والمخدرات أشار في تقريره الصادر سنة 2022 إلى أن «القيود المفروضة على السفر والتنقل –بسبب جائحة كورونا– لا تمنع هروب الأشخاص من النزاعات وانتهاكات حقوق الإنسان والعنف والظروف المعيشية الخطيرة، بينما من المرجَّح أن تؤدي العواقب الاقتصادية للوباء إلى زيادة تهريب المهاجرين والاتِّجار بالبشر». وفي سياق العَقْدين الأخيرين فإن السياسات الأوروبية الأمنية الصارمة على الحدود البحرية والبرية لم تخفض من نسبة المهاجرين، بل زادت من معاناتهم، كما دفعت المهربين للبحث عن طرق بحرية وبرية أخرى أكثر تكلفة وأشد خطورة.[13]
في دول شمال إفريقيا لا يقلّ وضع المهاجرين واللاجئين بؤساً، في غياب دولة مركزية، مثلما هو الحال في ليبيا، أو غياب قوانين تحمي أولئك الذين دفعتهم الظروف السياسية والاقتصادية والمناخية إلى مغادرة بلدانهم طلباً للحماية أو للشغل، مثلما هو الحال في العديد من بُلدان المنطقة.
في ليبيا عقّدت الحرب الأهلية وتداعيات كورونا من أوضاع آلاف المهاجرين وطالبي اللجوء الذين يقيمون في مراكز احتجاز، في ظل أوضاع صعبة، حيث تغيب السلطة المركزية في بعض المناطق، وتنشط الميليشيات دونما أدنى رقابة.[14]
ويبدو أن الدوافع الأمنية والسياسية في عدد من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تدفع بالعديد من مواطني دول المنطقة إلى اختيار الهجرة النظامية وغير النظامية كحلّ وأسلوب عيش في مناطق أكثر أمناً وتوفر فرصاً اقتصادية أحسن، في ظل الاستقرار والأمن اللذين تنعم بهما الدول الغربية. ورغم الحرب الدائرة في القارة العجوز بين روسيا الاتحادية وأوكرانيا، ومعها الدول الغربية، التي ساهمت بشكل كبير في تشديد إجراءات الهجرة واللجوء بالنسبة لمواطني دول الجنوب، مازال الإقبال كبيراً على الهجرة من هذه الدول نحو دول الشمال.
هذا بالإضافة إلى نزوح آلاف المهاجرين القادمين من دول إفريقيا جنوب الصحراء، والراغبين في الانتقال نحو الضفة الشمالية عَبْر السواحل المغربية والجزائرية والتونسية والليبية والمصرية، وما يترتب على هذا الأمر من تَبِعات وأعباء مادية وأمنية جمّة لا تستطيع هذه الدول تحمُّلها؛ ناهيك عن غياب التعاون الكامل مع دول الاتحاد الأوروبي التي لا تقدم الدعم الكافي لهذه الدول لمواجهة ظاهرة الهجرة غير النظامية، وقد تقع أحياناً في حَرَج كبير بين معادلة الأمن والتدابير الاحترازية واحترام حقوق الإنسان ومعاملة المهاجرين وَفْق القواعد والتشريعات الدولية المتعارَف عليها.
وتكشف الانتخابات الأخيرة للبرلمان الأوروبي عن حتمية تغيير المدركات والمواقف الغربية إزاء موضوع الهجرة، خاصة مع وصول اليمين المتطرف في العديد من دول أوروبا، ورغبة هذا التيار في توقيف الهجرة بناءً على عقيدة أمنية وعودة القومية مجدداً في أوروبا، ما سوف ينعكس على رغبة هذه الدول في استقبال مهاجرين جُدد في المستقبل القريب والمتوسط والبعيد.
الأزمات الاقتصادية المغذي الأساسي لموجات الهجرة غير النظامية
تُعتبر الدوافع الاقتصادية الأكثر جاذبية للهجرة، إذ تشير التقديرات إلى أن حوالَيْ 60% من سكان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، سواء بالنسبة للراغبين أو غير الراغبين في الهجرة بدون أوراق رسمية، يريدون مغادرة بلدانهم الأصلية. ويكمن العامل الثاني الأكثر تداولاً في البحث عن فرص التعليم والارتقاء المعرفي والعلمي بين الراغبين في الهجرة النظامية (9.7%) وغير النظامية (14.6%). وكانت الدوافع السياسية ودوافع الفساد الأكثر انتشاراً بين الراغبين في الهجرة بدون أوراق رسمية (6% و8.6%) مقارنة بغير الراغبين في الهجرة (3.1% و5.6%). وفي مصر وتونس والأردن فإن معظم المهاجرين النظاميين وغير الشرعيين يكون دافعهم بأغلبية ساحقة (أكثر من 70%) متمثلا في الاعتبارات الاقتصادية.
ويتمتع الجزائريون بواحدة من أكثر السمات التحفيزية تنوُّعاً، إذ يحتلّ التعليم، وأغراض التجمع الأسري والفساد، العوامل البارزة التي تدفع بهم إلى اختيار ديار المهجر. كما تُشكِّل المعضلة الأمنية محركاً أساسياً لاختيار الهجرة، بالإضافة إلى القضايا السياسية والتعليمية، بين المهاجرين النظاميين المحتملين. ويُظهر المغاربة غير الراغبين في الهجرة غير النظامية ميولات هجروية لاعتبارات تتعلق بالرغبة في تحسين شروط العيش، واستكمال الدراسة والتجمع العائلي، في حين أن أولئك الذين يرغبون في الهجرة غير النظامية من المرجَّح أنهم يقومون بذلك بدافع الهشاشة والفقر، أي لاعتبارات اقتصادية خالصة[15].
وفي أعقاب عمليات الإغلاق الصارمة خلال أزمة كورونا ارتفعت الهجرة غير النظامية من المغرب العربي بشكل ملحوظ بعد فترة هدوء نسبي[16].
وجدير بالذكر أن التونسيين والجزائريين كانوا أكثر الجنسيات الوافدة على أوروبا عبر هذه الطرق، يليهم البنغلاديشيون والسوريون والأفغان والمغاربة، في حين يتبعهم سكان إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وكان المهاجرون العابرون عَبْر شمال إفريقيا أقل شيوعاً بكثير[17]. لقد تضرر المغرب والجزائر بشدة – ليس فقط لأنهما يشعران بتأثير الانكماش الاقتصادي في شكل خسارة فرص العمل، ولكن أيضاً لأن الاستجابات الحكومية كانت قاسية وشددت القيود على عملية التنقل داخل البُلدان وخارجها.
ثانياً: ارتدادات الحركات الهجروية على منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
ظلَّت دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا طيلة الثلاثين سنة الماضية أسيرة نشاط الهجرة الدوليّة ونتائجها العميقة على المجتمع والأفراد، فلم تؤثِّر على الاقتصادات والإنتاج فحَسْبُ، بل أوجَدت قِيَماً وثقافة خاصّة تفضل الهجرة على الاستثمار في البُلدان الأصلية. ورغم التراجُع الملموس الذي مسَّ أعداد المهاجرين، وعودة أفواج من المُرحَّلين أو الذين قرَّروا الإقامة نهائيّاً بمجتمعهم، من الصعب أن نؤكِّد أنّ هذا التيّار الهجرويّ توقَّف نهائياً، بعد أن تجذَّرت المُمارسات الهجرويّة وصارت ذهنيّة صلبة ما تفتأ تُعيد إنتاج نفسها باستمرار[18].
الانعكاسات الاقتصادية
لا شك أن الهجرة كانت لها انعكاسات إيجابية على اقتصادات دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على مرّ العصور، حتى غدت مطلباً أساسياً للعديد من مواطني هذه الدول الراغبين في تحسين مستواهم الاقتصادي خارج أوطانهم من خلال الاندماج داخل اقتصادات أكثر غِنًى تُسجّل معدلات سريعة للنمو، لكن الانعكاسات السلبية ربما في بعض الأحيان تشكل حجر عثرة في وجه الاقتصادات الناشئة، التي مازالت لا تعتمد على معايير الحَكامة الجيدة والتنافسية والعدالة في توزيع الثروات والتمييز بين النخب واستبعاد الكفاءات، ما يحرم هذه الدول من الرأسمال اللامادي والكوادر الجيدة والخبرات المتخصصة التي أصبحت تفضل الاستقرار في الدول الغربية، التي تقدم لها مزايا مادية وتحفيزات معنوية وانسيابية أكبر في الترقي الاجتماعي والمهني، على خلاف بلدان المنشأ التي تعرقل الإرادات الحرة والمبادرات المبدعة الخلّاقة.
ومن الناحية الاقتصادية تتأثر كل من الدولة المهاجرة الأصلية والدولة المستقبِلة بالتداعيات الاقتصادية للهجرة، إذ تتأثر موازين المدفوعات فيها جميعاً نتيجة الدينامية الهجروية، وهذا الأمر يعزز فكرة الترحيب بالهجرة والمهاجرين كقيمة مضافة للدول المهاجرة ودول الاستقبال، حيث يتم تبادُل المزايا والإيجابيات وتساهم الحركات المهاجرة في تنشيط اقتصادات الدول النامية والمتقدمة معاً.
أما الجانب السلبي في الشقّ الاقتصادي فهو ينعكس على الدولة المستقبِلة للمهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين، وكذلك على الدول المصدِّرة لهم. ويتمثل هذا التأثير الشديد على الدول المصدِّرة للمهاجرين، وخاصة إذا كان المهاجرون من ذوي المهارة والخبرة أو كانوا من العقول المفكرة، في خسارة اقتصادياتها، لعدم إمكانية الاستفادة منهم. وعلى العكس تماماً نجد أن الدول المستقبِلة لتلك العمالة استفادت -ومازالت تستفيد- إذ تمكنت من تحقيق قدر كبير من استغلال إمكانات المهاجرين وخبراتهم، الأمر الذي يترتب عليه نجاح اقتصادها وزيادة في دخلها[19].
ورغم أن الهجرة قد تساعد في القضاء على البطالة في الدول المصدِّرة للمهاجرين إلا أنها لم تقضِ عليها كلياً. وفي مقابل ذلك لا يوجد هنالك تخطيط في الدولة المهاجَر منها لسدّ ذلك العجز الذي يحدث جراء هذه الهجرة. كما تُلاحَظ زيادة معدلات التضخم في الدول المصدِّرة للمهاجرين، حيث يتم إنفاق معظم التحويلات على الاستهلاك، الذي لا يعود بالنفع على التنمية أو المشروعات داخل الدولة الأصلية.
أما الأثر الاقتصادي للهجرة “باعتبارها جريمة منظمة” فيتجلَّى في كون تعريف الهجرة غير الشرعية يظل مقروناً بتعريف الجرائم الناتجة عن دخول أراضي دولة ما بدون إذن مسبق منها، وسلطة تلك الدولة تجاه المهاجرين، كما أن هنالك عصابات منظمة يقوم هيكلها التنظيمي على تصدير هؤلاء المهاجرين وتهريبهم، وتحصيل عوائد مالية ضخمة ناتجة عن تلك التجارة[20].
بناءً على ما سبق نستطيع أن نصف الهجرة غير الشرعية، سواء كانت فردية أم جماعية، بالهجرة التي يكون لمنظمات التهريب الدور البارز في تسهيل يد المساعدة وتقديمها للمهاجرين غير الشرعيين، عن طريق الدخول إلى تلك الدول بإعطاء المهاجرين جوازَ سفرٍ مزوراً أو إذنَ إقامةٍ مزوراً أو غير ذلك، مقابل كسب أموال طائلة منهم.
التداعيات الاجتماعية
تؤدي الهجرة عموماً من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى تغيير التركيبة الاجتماعية لهذه الدول، وكذلك دول المهجر، كنتيجة لما يُسمَّى الانتقاء الهجري، إذ يترتب عليها انتقاء العناصر الشابة من المجتمع وبصفة خاصة الذكور، ما يؤثر بالسلب على التركيبة الاجتماعية للمجتمع المهاجَر منه والآخر المهاجَر إليه[21]. وتساعد الهجرة إلى حد كبير في تغيير الخريطة الديموغرافية للمنطقة؛ وذلك لضخامة عدد المهاجرين، بالنسبة للسكان الأصليين. ويظهر ذلك بصورة واضحة في الدول النفطية، لأن أكثر المهاجرين هم من الدول غير النفطية. بالإضافة إلى ذلك هنالك ازدواجية الولاء عند المهاجرين، إذ إن الهجرات المؤقتة في نظر السكان الأصليين هي هجرات للاستثمار، قد تنتج عنها مضاعفات اجتماعية وسياسية خطيرة.
ومن الطبيعي أن يتم التعامل في الدول المستقبِلة للمهاجرين بنظام مختلف عما يتم التعامل به مع المواطن الأصلي، ما ينتج عنه الشعور بالضيق والاضطهاد، نتيجة التفرقة والتمييز العنصري، بغضّ النظر عن خبرة المهاجرين ومؤهلاتهم وكفاءتهم.
بالإضافة إلى ارتفاع معدلات الأمية نتيجة عدم كفاية الخدمات التعليمية، وغياب الرعاية الصحية لتغطية احتياجات السكان الأصليين، إضافة إلى السكان المهاجرين، الأمر الذي قد ينتج عنه تدهور المستوى السلوكي والقيمي للأفراد تزامُناً مع انتشار العديد من الجرائم المنظمة، وإضعاف الكيان الاجتماعي للسكان الأصليين نتيجة الهجرة غير المشروعة لعدد من الأيدي العاملة[22].
وتواجه دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مجموعةً من التحديات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية المترابطة، لكنّ معظمها تفتقر إلى القدرة المؤسّساتية للتعامل معها بسبب نقاط عجز متعلقة بنظام الحَوْكَمة. فيما تشكّل التحديات الخارجية تتويجاً لاتّجاهاتٍ طويلة الأمد يصعب تفاديها، وبالتالي تندرج مبدئياً ضِمن قدرة المنطقة على معالجتها وتخطّيها. لكن في الواقع لاقت دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا صعوبات لتحسين قدراتها المؤسّساتية لتقليل أرقام المهاجرين، بل وتغيير عقلية مواطنيها. فمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هي أبرز المناطق في العالم التي شهدت تراجُعاً في النتائج المرتبطة بالحَوْكَمة.[23]
خاتمة
يبدو أن دينامية الهجرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والمحرِّكات الأساسية لها، تتقاطع في تفسيرها العديد من العوامل السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية والقِيَمية والاجتماعية والنفسية، ما يجعل من تداعيات الهجرة على دول المنطقة ذات أبعادٍ بالغة الأهمية. ولا شك أن عائدات مواطني دول المنطقة في الخارج تشكل مورداً اقتصادياً مهماً لموازنات هذه الدول، وبالمقابل تحتاج هذه الفئة من المهاجرين إلى التعاطي معها بالكثير من الإيجابية، خاصة أن الأجيال القادمة أصبحت تتأثر بثقافة دول الاستقبال وتنسلخ من هُوِيَّتها الأصلية. كما أن عجلة التنمية في الدول المصدِّرة للهجرة مازالت تحتاج إلى الدوران وَفْق مخطَّطات مدروسة تتطلب استغلال الطاقات البشرية ومنحها المزيد من الفرص السانحة للاستثمار في أوطانها، وعدم تفضيلها خيار الهجرة.
وتواجه الموجاتُ الهجرويةُ العديدَ من التحديات المستقبلية، ولعل أبرزها يتجلى في هيمنة الجانب الأمني والإجراءات الاحترازية ومراقبة الحدود ومحاربة الهجرة غير النظامية واستمرار مظاهر الاضطراب في الإقليم، حيث تواجه الحركات المهاجرة سياسات أوروبية رافضة للهجرة بكل صنوفها واعتبار الضفة الجنوبية مصدراً للفوضى والاضطراب، وبالتالي تحاول الضغط على حكومات المنطقة لمراقبة الحدود ومنع الهجرة غير النظامية، كما تفرض شروطاً قاسية للهجرة والنزوح، ما يجعل من عملية الهجرة أمراً صعباً في ظل ارتفاع الأصوات القومية الغربية التي ترفض كل أنواع الهجرة، وحتى الإيجابية والنظامية منها.
The post لعروسي يبسط محرّكات وارتدادات الهجرة في شمال إفريقيا والشرق الأوسط appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.