والمغرب يعيش هذه الأيام على وقع احتفالات عيد العرش المجيد، الذي يخلد فيه الشعب المغربي هذه السنة (2024) الذكرى الخامسة والعشرين لاعتلاء صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله عرش المملكة المغربية، تحضرني ذكريات من زمان بعيد حول احتفالات المغاربة بعيد العرش خلال سبعينيات القرن الماضي.
3 مارس، تاريخ لا يمكن أن يمحى من ذاكرة جيلنا، نحن الذين ولدنا أو عاصرنا فترة حكم الملك الراحل الحسن الثاني تغمده الله بواسع رحمته. لقد كان عيد العرش، الذي كان يتم الاحتفال به في الثالث من مارس من كل عام، وطيلة 38 سنة (1999-1961) أهم عيد وطني على الإطلاق في المغرب. لقد كان مناسبة للتعبير عن التلاحم المتين الذي يربط بين الشعب والعرش، ومناسبة أيضا لتعزيز عرى الوحدة الوطنية بين مختلف مكونات الشعب المغربي من أقصاه إلى أقصاه.
كانت الاحتفالات والمهرجانات تُقام في مختلف المدن والقرى المغربية، تحييها مجموعات فنون الغناء والرقص الشعبية التي يزخر بها الفولكلور المغربي. وفي منطقتنا كانت فرق “إيمذيازن” أو “الشلوح” أو “جبالة” من أهم الفرق التي كان يتم التعاقد معها وكانت تجذب جماهير غفيرة. لقد كان عيد العرش بالنسبة لسكان البوادي والقرى أهم فرصة للتجمع والاحتفال والترفيه. فكانت كل قبيلة أو جماعة تنصب خيامها في مركز الدائرة أو القيادة، وتذبح الذبائح وتهيئ موائد الطعام للجميع، في مظهر يبرز مدى قوة وعمق التضامن الذي يجمع بين أفراد القبيلة الواحدة. وقبل عيد العرش بأيام تصدر الأوامر من العمالات إلى القرى والمدن بوجوب تبييض الجدران وصباغة الأبواب في الشوارع الرئيسية بلون معين. كما كانت ترفع بجانب الأعلام اللافتات الكبيرة التي تهنئ باسم سكان هذه الجماعة أو تلك القبيلة صاحب الجلالة بالعيد المجيد.
لقد كانت الاحتفالات المرافقة لعيد العرش في تلك الفترة، إلى جانب بعدها الاجتماعي، تحمل في طياتها بعدا سياسيا قويا. فقد كانت مناسبة للتأكيد على الاستقرار والأمن في البلاد، خاصة في ظل التحديات السياسية التي كان يشهدها المغرب في تلك الفترة. وخاصة بعد ملحمة المسيرة الخضراء.
كانت هذه الاحتفالات التي كان يتم تنظيمها في كل ربوع المملكة، مناسبة وطنية هامة تجمع بين مظاهر الفخر والوحدة والانتماء. وقد كانت المدارس تلعب دورًا هاما في تنظيمها وتأطيرها، حيث كانت تستعد بشكل مكثف لها من خلال إعداد أنشطة فنية متنوعة من عروض مسرحية وأغاني وطنية وخطب ومسابقات رياضية وثقافية..
مازلت أذكر، وأنا تلميذ في مدرسة عين الشفاء (1975-1972) مشاركتي في أكثر من مسرحية كانت المدرسة تقوم بتقديمها يوم عيد العرش أمام الضيوف من آباء وتلاميذ وسلطات عمومية. وخلال تلك الفترة كان أخي الأكبر (مصطفى) هو من يقوم بكتابة المسرحيات للمدرسة التي نحفظ حواراتها ونتدرب على أدوارها لأسابيع تحت إشراف معلمينا. وتحضرني في هذا المجال مسرحية سيدي عبد الرحمان المجذوب التي لعبت فيها دور البطل، وكانت مناسبة لأن أحفظ عن ظهر قلب جزءا كبيرا من ديوان المجذوب إياه. وهنا أذكر بأنه كان من المألوف ولأسابيع بعد مرور عيد العرش، أن ننادي على بعضنا بأسماء شخصيات المسرحية التي مثلنا أدوراها، كما نقوم بترديد فقرات منها بقيت عالقة في أذهاننا.
واستمرت مشاركتي في الأنشطة المقامة بمناسبة عيد العرش بعد الانتقال إلى إعدادية إدريس الأول بميضار ما بين 1979-1975. وإذ كنت أحد المتفوقين في اللغة العربية، فقد كانت تسند لي مهمة التقديم وإلقاء الخطب والقصائد الوطنية. برنامج الحفل كان يتضمن أيضا مسابقات في الثقافة العامة. وفي إحدى هذه المسابقات فزت بجائزة كانت مؤلفة من كتب وواحدا من أعداد مجلة العربي الكويتية. كانت تلك أول مرة تقع عيناي عليها، ومنذ ذلك الحين أصبحت مدمنا على قراءتها ومتابعتها. وقد كان لهذه المجلة، إلى جانب مجلات أخرى كانت تصلنا من الشرق أمثال: الأمة، الهلال، المختار، الوعي الإسلامي، المنار… إلى جانب الأعداد الثقافية الأسبوعية للجرائد المغربية وبالخصوص جريدتا العلم والمحرر (التي ستتحول في ما بعد إلى الاتحاد الاشتراكي)، فضل كبير علينا، نحن جيل الستينات والسبعينات في تشكيل وعينا وتوسيع دائرة معارفنا ومداركنا.
لقد لعبت الأنشطة التي كانت تنظمها المدارس بمناسبة عيد العرش دورا كبيرا في صقل مواهبنا الفنية نحن التلاميذ في مجالات التمثيل والخطابة والشعر والرسم… ففي بيئة لم تكن تتوفر على دار للشباب (كما كان عليه الأمر في المدن الكبيرة)، كان عيد العرش، وبدون وعي سواء منا أو من معلمينا، مدرسة فنية بامتياز. فمازلت أذكر تقديمي في أحد أعياد عيد العرش أغنية “ما أنا إلا بشر” التي نالت حينها إعجاب الحاضرين وتصفيقاتهم. كما ساهمت في تطوير مهاراتنا الكتابية من خلال تشجيعنا على كتابة مقالات أو شعر حول موضوع عيد العرش.
لم تكن مدينة ميضار تتوفر آنذاك على ثانوية للسلك الثاني، مما حتم علينا الانتقال في سنة 1979 لمتابعة الدراسة في ثانوية عبد الكريم الخطابي بالناظور. وإذ لم تكن ثانويتنا الجديدة تقوم بتنظيم احتفالات خاصة بمناسبة عيد العرش، كما هو الحال في المدارس الابتدائية والإعداديات، فستتوقف مشاركاتنا الفعلية في هذه الاحتفالات. ولكن ذكريات الأعياد السابقة ستبقى راسخة في أذهاننا متجذرة في وجداننا، وقد ساهمت إلى حد بعيد في غرس القيم الوطنية في نفوسنا وفي تشكيل وعينا واعتزازنا بالهوية المغربية.
The post عيد العرش.. عودة بالذاكرة appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.