من بين ما خلصت إليه دراسة جديدة أن “الأطروحات التي تحاول تحديد نشأة الدولة المغربية بفترة سياسية معينة تفتقد غالبا إلى معايير علمية واضحة”، إضافة إلى أن “القراءة الانتقائية والمتواترة كانت دائما وما زالت تقف عند الدول المركزية الكبرى (المرابطون، الموحدون، المرينيون)، ثم تضيف إلى هذه الدول المتجانسة بوجه عام دولة سابقة عنها زمنيا وهي دولة الأدارسة. ونظرا لأقدمية هذه القراءة وسعة انتشارها، فإن هذه الدول الأربع هي التي تمثل الدولة المغربية الوسيطية بالنسبة للوعي التاريخي الجماعي”.
جاء هذا في دراسة للباحث عبد الرزاق السعيدي، تهتم بـ”دور الهوامش في بناء الشخصية السياسية للمغرب الأقصى، مع إعطاء الأهمية للجوانب الاقتصادية والاجتماعية، ورصد أدوارها في توطيد وتدعيم تلك العلاقات بين المركز والهامش من جهة والتأثير فيها، أو في الحد من تلك الصراعات والنزاعات والحروب التي سادت العصور الوسطى”، وقد صدرت ضمن الكتاب الجماعي الجديد الصادر عن المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية فيما يقرب 600 صفحة، بعنوان “دور الهوامش في بناء الشخصية السياسية للمغرب في العصر الوسيط مقاربة تاريخية لسيرورة الاستقلال وبناء الدولة بالمغرب”.
الدراسة، التي تروم “مساءلة للواقع التاريخي المغربي”، ذكرت أن “الدول التي أقصيت من خانة الدول المغربية بحكم بروزها في الهامش (…) تمثل مجموعة متسلسلة تتقاسم المسار نفسه مع الدول آنفة الذكر؛ وكذلك لأنها تمثل في نظرنا (…) الإرهاصات الأولية للاستقلال السياسي للمغاربة عن المشرق خلال الفترة المدروسة انطلاقا من الهامش، وليكتمل مسار الدولة المغربية الوسيطية (…) والتي تمثلت في الثورات المتتالية التي قامت بها القبائل المغربية ضد جور الأمويين والعباسيين، ثم التجارب الاستقلالية الأخرى التي قامت بها الاتحادات القبلية المغربية الكبرى، والمتمثلة في كل من صنهاجة ومصمودة وزناتة”.
وتحدث الباحث عن المجال باعتباره الفضاء الذي يغطيه نفوذ السلطان، ولأنه مترتب عن حركية عسكرية لاكتساحه؛ فحسب دارسين استشهد بهم، “في حالة التوسع يكون التعامل مع المجال تعامل غزو، فتعلن المجموعة البشرية الموجودة فيه ولاءها للسادة الجدد أي للمتغلبين إلى حين، وحسب شهية هؤلاء وغنى المناطق الهامشية تؤسس علاقات جبائية وتغريمية لا تنضبط لأوامر الشرع في الغالب الأعم، تمثلت في القبالات والمعونة والإنزال والتضييف والمكوس والزيادة في تقدير الواجب وجمع الميرة وتوفير العلف للسلطان وجيوشه وحاشيته عند التنقل والسفر والمرور بهذه الهوامش، بل قد تخللتها تجاوزات زادت من تهميش الهامش، إما بالمصادرة وسوء المعاملة، أو نهب للثروات”.
وبالتالي، لا عجب أن “وصلت المسألة في العهد المريني إلى تفويض الجباية لشخص ما يؤدي قيمتها مسبقا، وتمكينه من كل أدوات الزجر التي تسمح له ليس فقط باسترداد ماله، بل بتحقيق ربح وفير، كما هو الشأن بأوروبا الإقطاعية خلال الفترة التاريخية نفسها، مما كان له بالغ الأثر على وضعية الهامش اقتصاديا وديموغرافيا”.
مثل هذه الممارسات “حالت في الغالب دون استمرار ‘أسباب الوحدة’ بالغرب الإسلامي، ولفترة طويلة، باستثناء الموحدين”؛ وهو ما رجح الباحث أن سببه “كون جل الكيانات السياسية لم تحسن التصرف مع المجال ونقصد هنا الهوامش. أما الدولة الموحدية فقد تحكمت في المجال أكثر وفق مرجعية وإيديولوجية دينية تزكي هذا الطرح، إضافة إلى تحالفات واضحة واستثمار للهامش بشكل جيد”، مع العلم أن “مجال المغرب الأقصى قد ظل عموما مخبرا لتجارب محلية عديدة منطلقة من الهامش، ساهمت فيها مختلف الدعوات والاتجاهات العامة للفرق الإسلامية”، وهي تجارب “ساهمت في تكوين ‘الدولة المغربية’ وبلورة لبناتها الأولى”.
ومن الدول المهمشة من تاريخ تشكل “الدولة المغربية” التي وقفت عندها الدارسة “الدولة المكناسية” المسماة “دولة بني أبي العافية”، وإمارة بني يفرن أو “مملكة” تادلا/سلا، ودولة المغراويين. ونبه الباحث إلى أن “طرح دور الهوامش في علاقتها بالحواضر محاولة لتسليط الضوء على دور سكان البوادي في صنع تاريخ المغرب”، علما أن “ما نقصده اليوم بالهوامش، أي المناطق والبوادي والأرياف البعيدة عن الحواضر الكبرى، لم تكن بالضرورة تعيش الوضعية نفسها خلال الفترة المدروسة؛ فبعض تلك المناطق كانت مركزا اقتصاديا أو اجتماعيا أو سياسيا، مثل سجلماسة بتافيلالت وماسة بسوس وأغمات وغيرها”.
ومن بين خلاصات الدراسة أن “الدخول العربي الإسلامي إلى بلاد المغرب رغم ما يثيره من إشكالات، فقد كان بعيد الغور في تشكيل الكيانات السياسية في المغرب، وصار منهجا لا تقوم الدولة الوطنية إلا من خلاله، وخاصة البعد الديني، وقد أثر (التوافق والصراع) في مصير المنطقة ووضح المعالم الأساسية لصيرورتها التاريخية، وحددت بالتالي آفاق مستقبلها الديني والفكري والسياسي والاقتصادي؛ لكن الشخصية السياسية للمغرب، المتأصلة في الهامش، ظلت حاضرة على امتداد كل تلك المراحل التاريخية”.
كما خلص المصدر إلى أن “الإرهاصات الأولى لبناء الدولة الوطنية بالمغرب انطلقت من الهوامش، رغم ما اعتراها من شوائب، واعتبرت بمثابة اللبنات الأولى في استقلالهم عن القوى الخارجية، ومع ذلك فالطريقة التي بنى بها المغاربة فضاءهم السياسي وصاغوا من خلالها علاقاتهم بالكيانات القائمة في بلادهم قد أثرت بشكل كبير في بناء الشخصية المغربية منذ وقت مبكر، وصولا إلى التاريخ الوسيط مع الدولة المرابطية والدولة الموحدية وغيرهما بالمغرب”.
ومن بين ما نادت به الدراسة ما صاغه عبد الرزاق السعيدي في خاتمتها: “لا يزال للتاريخ وللعلوم الإنسانية والاجتماعية الدور الحاسم في التوعية بضرورة الحفاظ على وطننا الكبير، واستيعاب الوطنية التي تدعو إلى التوازن المجالي على الأصل على مستوى الكتابة التاريخية، بهدف خلق مجتمع متوازن ومدرك لما قدمته كل أطرافه وجهاته في بناء الدولة، في سياق فهم تاريخنا لطرح وإعادة طرح قضايا الجهوية والاختلاف الثقافي والجهوي في إطاره الصحيح”.
The post دراسة تميط اللثام عن “دول هامشية” مهملة من تاريخ نشأة المملكة المغربية appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.