جدلٌ متجدد حول التاريخ القديم للمغرب، وما يليه من تضارب المواقف، وإشكال سوء تدبير طال بعض مكوّنات الغنى التاريخي للبلاد، سلّط الضوء عليه الباحث المتخصص في تاريخ “قلعة السراغنة” عبد الكريم حفار، الذي دافع عن “الأصل المختلط” للمدينة بين تاريخ أمازيغي قديم يشهد عليه الجزء الثاني من اسمها، وتاريخ عربي مع الهجرات، خاصة في عهد حكم السلالة المرينية للمملكة، يحمله الجزء الأول من اسم الحاضِرة المغربية.
الدكتور عبد الكريم حفار الذي ناقش في التسعينات رسالته حول قلعة السراغنة الموجودة بخزانة الآداب بجامعة مراكش، ونشر مضمونها مختصرا في كتاب بعنوان “قلعة السراغنة.. جوانب مدينة في تحول”، كان له تدخل حديث محاضراً في إطار مشروع “قلعة السراغنة.. نحو بناء هوية ثقافية: التاريخ، الثقافة، الإنسان والعمران والرأسمال اللامادي”، الذي أطلقه “المركز المغربي للإعلام والتدريب”، بدعم من وزارة الشباب والثقافة والتواصل، وتعاون مع “جمعية بصيص أمل قلعة السراغنة”.
إبادة الإرث الحضاري المادي
في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية حول بعض الجوانب التاريخية الوسيطيّة والراهنة، أوضح عبد الكريم حفار أن الأسوار التاريخية للمدينة قد هدمت أواسط ستينات القرن العشرين “بقرار قائد محلي وباستعمال مفرقعات الديناميات حيث فجّرت الأسوار بأبراجها وأبوابها، والآن لا نجد ما نثبت به الغنى والتنوع والتراث المعماري للمدينة في فترات سابقة”.
وتابع موضّحا: “كانت في قلعة السراعنة ثلاثة أو أربعة مآثر كبيرة؛ من بينها دار الزليج التي كانت بمثابة قصر ينزل به السلطان المولى سليمان، بفسيفساء جلبت من فاس في القرن الثامن عشر، وأيضا منزه القلعة الرَّاشْيَة الذي بُني في النصف الأول من القرن 19 من طرف القايد أحمد الذي كان ثريا، وكان مجهزا بناعورة للماء يأتي ماؤها من الساقية لملء الصهاريج وسقي البساتين، ثم سور القلعة الراشية الكبير، الذي ما زالت له صور جوية من الأربعينات وبداية الستينات”.
واستدرك حفار قائلا: “إلا أنه في أواسط الستينات، اتُّخذ قرار بتدمير السور التاريخي، وعند التجول في المدينة القديمة اليوم لا نجد مآثر تدل على قدمها باستثناء ضريح سيدي عبد الرحمان أو المسجد العتيق للمشور”، فالتدخلات غير المحسوبة جعلت “ألا دليل ماديا اليوم على الاستيطان البشري القديم بالمدينة، رغم عراقتها، بسبب أخطاء التاريخ المحلي”.
ومن بين الأسباب أيضا، المشاكل بين القوى المحلية والسلطة المركزية المغربية مطلع القرن العشرين خلال “فترة السِّيبَة”، حيث “ترك لنا نقيب فرنسي دخل القلعة في نونبر 1912 وصفا دقيقا للسراغنة؛ من تخريب للقلعة، وصراعات ومشاكل بين القوات المحلية والقبائل المحيطة والسلطة المركزية، وهي إشكالات ساهمت في تخريب أسوار المدينة، ومدخلها، وما تبقى من آثارها”.
أصل “السرغينيّين”
ذكر عبد الكريم حفار أن “الإشكال الرئيسي الذي لم يعجب عددا من القراء” إثر صدور كتابه “قلعة السراغنة.. جوانب مدينة في تحول”، دفاعُه عن “أطروحة أن الأصل في ساكنة المنطقة، أصل أمازيغي، فالأرض لم تكن أرضا خلاء، وإنما تم تعريب المنطقة عبر وفود عدد من المجموعات، وفي [الاستقصا] للناصري في الجزء الخاص بالعهد المريني، تفاصيل مهمة تزكي هذا”.
وأضاف في تصريح لهسبريس: “الساكنة المحلية تحسم بأن القلعة عربية الأصل، وبالتالي عندما طرحت أطروحتين أخريين، هما: الأصل الأمازيغي، والأصل المختلط، علما أنني من المدافعين عن صحّة أطروحة الأصل المختلط؛ فإن ذلك لم يُستسغ”.
وتابع: “ساكنة قلعة السراغنة لا ينبغي أن نتناولها بمعزل عن صراع إمارة بورغواطة، مع دولتين أساسيتين هما الدولة المرابطية ومن بعدها الدولة الموحدية؛ فبورغواطة إمارة غنية كانت تحتل السهول الأطلسية من سلا شمالا، أي من وادي أبي رقراق، وصولا إلى واد تانسيفت جنوبا”.
وزاد: “بورغواطة أثارت عداوات مع جيرانها، والمرابطون القادمون من الجنوب بالصحراء لم يقبلوا بعض اجتهاداتها الدينية إن صح التعبير، بظهور نبي فيها، وصياغته قرآنا لهم، مع صلاة خاصة، وطقوس، مما أثار عددا من الصراعات والخلافات والاقتتال، إلى درجة أن مؤسِّسَ الدولة الموحدية عبد الله بن ياسين، قتله البورغواطيون، قبل أن يستأصل الموحدون شأفة البورغواطيين”.
واسترسل شارحا: “في المواجهات كانت هزيمة نكراء وإبادة شبه تامة للقوات البورغواطية، وبقيت المجالات السهلية الواسعة جدا المفتوحة على المحيط الأطلسي شبه فارغة، وأضيف إلى هذا هزيمة الموحدين في [معركة العقاب] بالأندلس، في هزيمة كشفت [عورة المغرب] كما قال المؤرخون، وكان قتلاها من القوات الموحدية، المصمودية في غالبها، أو القوات من قبائل عربية التي قاتلت إلى جانبها والمستقرة أساسا في المغرب الأدنى تونس، والمغرب الأوسط الجزائر”.
وأردف قائلا: “معركة العُقاب نقلت المغرب من حال القوة والتوسع إلى حال دولة لا تمتلك من القوات ما تدافع به عن نفسها؛ فبدأت الإغارات الإيبيرية، مما جعل الموحدين يفتحون الباب لعدد من القبائل العربية الهلالية والمعقلية إلى السهول الأطلسية، في المجال الذي كانت تستوطنه إمارة بورغواطة، وهنا تأتي بداية تعريب المنطقة”.
اندحار بورغواطة وضعف الموحدين، يواصل المصدر ذاته، نتج عنهما شبه فراغ في الشاوية ودكالة وعبدة والسراغنة وبني مسكين، و”تخوف من احتلال الايبيريين للمجال؛ فجاء قرار استقدام عدد من القبائل العربية القاطنة بصحراء المغرب، والغرب الجزائري، من طرف المرينيين الزناتيين الأمازيغ الذين كان لهم تحالف عربي لظروف المصلحة السياسية”.
ومن بين ما استحضره الباحث في حديثه مع هسبريس، “مؤشرات كثيرة تدل على الجذور الأمازيغية لساكنة المنطقة”، منها أن “السراغنة” لا توجد في “معجم القبائل العربية”، و”تسميات مجموعات بشرية مثل ركراكة وصنهاجة، ومناطق وأسواق وأعشاب… فعشبة تسرغينت التي تحدث عنها حسن الوزان، يوجد من يربط بها تسمية المدينة، بينما يوجد من يرجّح أن أصل التسمية إسرغين بالأمازيغية المصمودية التي تعني الشريف، وهم عشيرة المهدي بن تومرت؛ أي إنه قد كانت لهم مرتبة اجتماعية عليا مختلفة عن عامة الناس”.
تحوّل سكّانيّ وهجرة للأدمغة
لم يتوقّف التحوّل السكاني لـ”قلعة السراغنة” في القرون السابقة على القرن العشرين، بل تجدّدت الهجرات مطلعَهُ مع تحركات أحمد الهيبة المقاوِمة لبداية الاحتلال الأجنبي، وصار قادمون معها “جزءا من الساكنة المحلية، في اندماج نشهده اليوم، جاءت مكوّناته بالتدريج، منذ القرن الثاني عشر على الأقل”.
“قلعة السراغنة” التي كانت في القرن السادس عشر مكانا لراحة سلاطين الدولة السعدية، وكان السلطان أحمد المنصور يأتيها لممارسة الصيد مثلا، مع جذبها عددا من المسؤولين المركزيين الآخرين، من بينهم السلطان سليمان العلوي، لم يكن عدد سكانها سنة 1883 يتجاوز 3000 نسمة، 2500 مسلم، و500 يهودي.
ثم في سنة 1921، صار عدد السكان 1000 فقط “دون توضيح”، وفي 1928 ألفين، ثم في 1936 بلغ عدد السكان 6065 نسمة، وفي تعداد سنة 1951 صار عددهم 6490، والمسلمون منهم 5679 واليهود 577 والأجانب 234، أما في سنة 1960 فمجموع السكان أصبح أزيد من عشرة آلاف؛ مسلموهم 9870، ويهودهم 250 وأجانبهم 67.
أما في عام 1971 فمجموع السكان كان 17 ألفا و163، بأزيد من 17 ألف مسلم، مع اندثار للمكون اليهودي وبقاء 13 أجنبيا، وصولا إلى سنة 2004 التي بلغ فيها عدد السكان 68 ألفا، كلهم مسلمون، والأجانب 27.
وعلّق حفار على هذه الأرقام بالقول: “الساكنة (المسلمة) إضافة إلى مكونها الأساسي كانت تجاورها ساكنة أخرى يهودية، وإلى غاية بداية الستينات، ومنذ سنة 1912، حضر المكون الأوروبي من موظفين وجنود وتجار، وهي مكونات عرفتها قلعة السراغنة، وعاشت في ظلها، وكانت لها ترجمة على مستوى المجال السكني، والساكنة المسلمة كانت لها أحياؤها الخاصة، وكان الملاح القديم لليهود، ثم ملاح جديد بناه الفرنسيون بعد الاستعمار”.
في هذا الفضاء كانت دورُ القُواد لا كدور “بقية الناس”، نظرا لإمكانياتهم التي أتاحت لهم “نقل الزليج من فاس إلى القلعة على ظهور الجمال، وهو تنوع لا نعيشه حاليا، باختفاء الأوروبيين واليهود المغاربة، بل نعيش في إطار مكون واحد”.
وعلّق عبد الكريم حفار على راهن “قلعة السراغنة” قائلا: “كان يمكن أن يأخذ تحول المدينة اتجاهات أخرى، بدل التوسع على حساب مناطق فلاحية كانت مغروسة، مما خلف اختلالات مجالية؛ فلا يعقل أن تكون محطة التصفية في شمال المدينة، بينما رياح المدينة شمالية أو شمالية غربية، مما يجعل أناسا (مناطق بها) يعانون من رائحة الصرف الصحي، وكذلك الأمر بالنسبة لمكب النفايات الصلبة، ثم مشاكل التوسع غير المعقلن وغير المدروس، بقرارات تقِنْوَية دون دراسة، والمدينة اليوم عدد ساكنتها 100 ألف نسمة وتتوسّع في جميع الاتجاهات”.
وبين الأمس واليوم “العديد من النخب المحلية لم يقيّد لها الوجود بالمدينة، والطلبة يضطرون إلى المغادرة خارجها للدراسة، ويوجد أطر يعملون بالمدينة ويقطنون بمراكش”، مع إشكال إضافي مواطِن “في تملك المشاكل واقتراح الحلول، لعدم وجود التراكم الكافي للمادة الرمادية بالمدينة”.
The post حفار: التاريخ المحلي دمر “معالم السراغنة” .. ودلائل “الأصل المختلط” ثابتة appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.