نبّه الأستاذ الجامعي سعيد بنيس إلى حاجة الجامعة والمجتمع العلمي المغربي إلى “مأسسة أخلاقيات البحث العلمي في العلوم الاجتماعية عبر إحداث لجن جامعية للأخلاقيات”، قائلا في تصريح لهسبريس: “في المغرب، ما يهمنا عندما يتسجل الطالب أن يضع مشروع البحث، ويوقع ميثاق الطالب، ثم نعطيه ترخيصا؛ لكن هناك معايير أخرى، في الجامعات المكرسة، من بينها موافقة لجنة الأخلاقيات على البحث الجامعي”.
وتابع الأستاذ الجامعي شارحا: “من المعايير التي تنظر فيها لجنة الأخلاقيات: هل يساير البحث القيم الجامعية وقيم العيش المشترك وعدم المس بحقوق الإنسان، وحقوق الطالب، والتزاماته الأخلاقية مثل عدم الكذب على الناس في البحث الميداني، وعدم الالتفاف على الموضوع، وضرورة التصريح بالصفة”.
وزاد بنيس: “في جامعات أمريكية يوقع المبحوثون (العينات) ورقة إدارية، للتحقق بعد المرحلة الميدانية من نتائج البحث؛ وهدف هذا في الأخير احترام البحث العلمي الأخلاقيات.. وإذا خرق الطالب الميثاق لا يعود طالبا طيلة حياته، كما ينبغي عدم نشره أبحاثه في المجلات المفترسة التي ليست لها لجان علمية وتنشر دون تحقق، وإذا نشر فيها الطالب يفترض إلغاء بحثه، وكذلك إذا ثبتت سرقته علميا فلا ينبغي أن يطلب منه تعديل ما سرق؛ بل أن يُلغى هو نفسه من البحث العلمي لأنه ارتكب سرقة غير أخلاقية”.
جاء هذا التصريح حول عرض ألقاه سعيد بنيس، الأستاذ بجامعة محمد الخامس، بعنوان “أخلاقيات البحث العلمي بالجامعة المغربية.. رهانات وتحديات العلوم الإنسانية والاجتماعية”، في إطار المؤتمر الدولي للغات والآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية، الذي استقبله مدرج الشريف الإدريسي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط.
وفي عرضه حول الحاجة إلى علوم إنسانية واجتماعية ترتكز على أخلاقيات وقيم سليمة، تصون مكانة البحث العلمي، من أجل “الهدف الأسمى” الذي هو “منتوج علمي ينضح بالفكر النقدي”، دعا بنيس إلى الاستعاضة عن “التسجيل في الدكتوراه” كما يجري حاليا، بـ”الترشح للدكتوراه” مع ما يقتضيه هذا من اختيار لجنة للدكتوراه من ثلاثة أعضاء إلى خمسة، عوض الاقتصار على الأستاذ المشرف، وأخذ رأي لجنة الأخلاقيات في البحث المرشح، ثم في مرحلة لاحقة قرار “لجنة المتابعة والمراجعة اللغوية والترجمة”، و”الموافقة على وثيقة الميدان”، بعد البحث الميداني.
ونبه الباحث إلى تحديات منهجية أخرى تواجه الجامعة المغربية؛ من بينها “تحدي العهد الافتراضي” للمرور من الميدان الواقعي إلى الميدان الافتراضي، ومن مجتمع بحث واقعي إلى مجتمع بحث ديجيتالي، ومن مجتمع التواصل إلى مجتمع الاتصال، ومن أفراد وجماعات واقعية إلى أفراد ومجموعات افتراضية، ومن مواطنة واقعية إلى مواطنة ديجيتالية، ومن “البراديغمات” إلى “الخواريزميات”.
كما نادى بنيس بالانتقال من “الجامعة الممركزة” إلى “الجامعة الترابية”؛ عبر “أقطاب جامعية تنافسية تستطيع الاشتغال على الإشكالات الترابية”، مع ذكره أن “تفويض البحث العلمية لمكاتب خبرة نتج عنه تهميش الجامعة المغربية”، مع تساؤله: “بعيدا عن الجوائز والتصنيفات، ما وقع وأثر العلوم الإنسانية والاجتماعية على التنمية بالمجتمع المغربي؟”.
وزاد فاتحا علامة الاستفهام: “هل نحن بصدد بحث علمي ‘سوفت’ يرتبط برهانات التنظير والتصنيف والنشر في المجلات العلمية المرموقة؟ أم بصدد بحث علمي ‘هارد’ ترابي صادر عن جامعة مغربية يرتبط بسياق معين هو السياق المغربي ومعضلاته؟”.
ودعا الباحث إلى “الابتكار والتميز العلمي للعلوم الإنسانية والاجتماعية لا فقط بتناول الإشكالات الراهنة والحارقة بل كذلك بإبداع أدوات منهجية جديدة للبحث العلمي بالجامعة المغربية، في مقاربة المواضيع لكي لا نبقى حبيسي العولمة العلمية والانهزامية البحثية، وحتى نبدع خصوصية علمية تميز المدرسة المغربية في العلوم الإنسانية والاجتماعية”.
ومن أجل “تجذير” العلوم الإنسانية والاجتماعية “ترابيا وميدانيا”، لا بد، حسب المصدر نفسه، من التحقق من نتائج البحث، انطلاقا من مبدأي المصادقية والصلاحية، المتطلبين للنظر في المنهجية المستعملة، وملاءمتها لموضوع البحث، وقيمة نتائجها.
وخلص سعيد بنيس إلى أن البحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية يعرف اليوم “تغييبا” للأخلاقيات؛ علما أن “إسقاط آليات أخلاقيات الحقول التي تشتغل على التجريب على الإنسان يطرح تساؤلات عديدة في علاقته بطبيعة الملاحظة العلمية موضوعِ العلوم الإنسانية والاجتماعية”؛ وهو ما يستدعي إحداث لجنة للأخلاقيات ينبغي أن تكون “موافقتها أو رفضها شرطا أساسيا في قبول مشروع البحث العلمي”.
ثم استرسل موضحا أن هذا يتطلب “تنظيم ومأسسة حقل التعليم والممارسة والبحث والإنتاج والابتكار في العلوم الإنسانية والاجتماعية”؛ لأن الأخلاقيات “تقع على نقيض ثقافة وممارسات السلوك الافتراضي من قبيل ‘البوز’ (المثير للجدل) والظواهر الديجيتالية المستشرية”، وتنضبط لـ”الفصل بين جلسات البحث والأحاديث الشخصية بين الباحث ومصادر المعلومات”، و”عدم توظيف الأحداث التي تقع في حضور الباحث إلا بموافقة المشاركين فيها”، و”مسؤولية الباحث في التسجيل الوصفي الموضوعي وعدم الإضرار بالمجتمع”، و”احترام قيم مجتمع البحث في مدى السماح للباحث بالمشاركة”.
كما يجب أن تنضبط الأطاريح وتتحقق من ذلك اللجنة الأخلاقية المسؤولة لـ”التوازن بين الاندماج في المشاركة والملاحظة”، و”الرؤية التقديرية لما ينشر وما لا ينشر من معلومات تأتي من المشاركة؛ مثل الوثائق الشخصية، والعقود والاتفاقيات غير المنشورة”، واللجوء إلى “التضليل” فقط “في حال كونه ضرورة مطلقة (…) مع اتخاذ الاحتياطات المسبقة الإضافية لحماية حقوق ومصالح المشاركين (…) وتقديم وصف غني وكامل وأمين للمشاركين، حول الدراسة والأسباب التي دعت إلى التضليل”، والتخلق العلمي بـ”النسبية في مقابل الوُثوقيات”، والحذر من “خطر التداخل بين الصحفي والسياسي، والافتراضي والتفاعلي، وتربص المجلات المفترسة، واعتماد معجم محايد، والانضباط لأسلوب الكتابة المعتمد من طرف الجامعة، وصيانة حقوق الملكية، والحكامة التقنية واللغوية”، ثم بعد ذلك الترجمة إلى اللغة الإنجليزية.
وشدد سعيد بنيس على أن الساحة العلمية المغربية في حاجة ملحة إلى “صقل هوية البحث العلمي وتوطينه من خلال تملك تقليد ناظم، وبناء شخصية متفردة لعلوم اجتماعية مغربية تنأى بنفسها عن المآلات النفعية لمقولة الخبرة والاستشارة، وتستشرفُ ملامح بحث بنكهة وصيغة ترابية”، في سبيل الحؤول دون “الانهزامية الأكاديمية”.
The post بنيس ينادي بمأسسة أخلاقيات البحث لصيانة المسؤولية العلمية للجامعة المغربية appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.