قال خزعل الماجدي، الأكاديمي العراقي والباحث في علوم وتاريخ الأديان والحضارات والأساطير، إن “الحضارة الإسلامية انتهت مع سقوط الخلافة العثمانيّة سنة 1924″، مبرزا أن “عناصرها كحضارة انفرطت ولم تعد فاعلة في العصر الحديث”. وأضاف أنه “في الزمن الذي نحن فيه برزت حضارة واحدة مهمة جدا غيرت وجه الأرض وتكوين الإنسان، هي الحضارة الحديثة، ونسميها الآن الحضارة المعاصرة”.
ولفت الماجيدي، في هذا الحوار مع هسبريس، إلى أن منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط تحتاج إلى أن تنخرط في نادي الحضارة الغربية بلا أي رجعة أو تفاوض، مشيرا إلى أنه “لا بديل لنا عن الحداثة ولا غنى لنا عن هذا المسار التاريخي حتى لا نحكم على نفسنا بالانقراض”. وأضاف “نحن أمام مستقبل الآن، وسنتعرض لضغط كبير جدا في هذا السياق العالمي وسنهمّش أمام هذا التقدم الكاسح للعلوم والثقافات”.
وأوضح أن فشل محاولات حوارات الأديان مرتبط بانتفاء “عنصر التكافؤ، ولا ينطلق من أن كل توقيع روحي يحقّ له أن يوجد وأن يعتنق عقائد يراها صالحة”، لافتا في النهاية إلى أن هذه التراكمات المطروحة على الجدول العالمي تنذر بكوارث ستؤدي بـ”العالم إلى الانفجار”، وأكد أن “المشكلة قائمة والتوتر حاصل والقادم سيئ”، وأن العالم سينفجر بأكمله في يوم من الأيام وستحصل فيه استقطابات كثيرة لا يمكن التكهن بنتائجها.
نص الحوار:
نبدأ نقاشنا بالحضارة الإسلامية، التي تشكل وجها ضمن 30 وجها للحضارة في التاريخ، وجدتها في دراستك، وأكدت بوضوح أن الحضارة الإسلامية قامت على فكرة دينية مثلها مثل المسيحية وبدرجة أقل البوذية. هل من شيء تبقّى من الحضارة الإسلامية؟
في الحقيقة، الحضارة الإسلامية انتهت عام 1924 عندما سقطت آخر دولة خلافة في العالم الإسلامي، هي الدولة العثمانية. أقصد انتهت هذه الحضارة كحضارة، لكن مفعول الدين بقي مستمراً، وهو حاجة ضرورية للإنسان وللشعوب بأكملها. بيد أن عناصر الحضارة انفرطت ولم تعد فاعلة في العصر الحديث. وقد كان هذا مصير الحضارات الوسيطيّة في بقية العالم، بما في ذلك الحضارة المسيحية والحضارة البوذية إلخ. كل حضارات العالم الـ29 انتهت. لماذا؟ لأنه في الزمن الذي نحن فيه برزت حضارة واحدة مهمة جدا غيرت وجه الأرض وتكوين الإنسان، هي الحضارة الحديثة ونسميها الآن الحضارة المعاصرة.
حتى نظل في الموضوع نفسه، حين نعود إلى حضارة المسلمين تشير في كثير من المرات إلى وزارة الزندقة التي خلقها الخليفة المتوكل، هل تتقاطع مع من يرى أن أمورا من هذا القبيل “تكشف” أن الحضارة الإسلامية “قامت على غايات سياسية دنيوية، لكن بتوظيف شيء روحي”؟
أكثر من هذا؛ أنت تعرف أن الحضارة الإسلامية كانت عبارة عن إمبراطورية ضخمة ثم أصبحت إمبراطوريات. هذا المجال الهائل والواسع جدا من الشعوب والأمم التي دخلت في الإسلام كان يجب أن يأخذ بعين الاعتبار أن هناك تنوعاً مثيراً للانتباه. أولاً، تنوّع في المسلمين أنفسهم، والاختلاف كان مبكراً في هذه الحضارة؛ رغم أن المبادئ الدينية كلها واحدة، ولكن هناك أثر نبض خاص في المكان لم يؤخذ بنظر الاعتبار.
دعني أزيدك أكثر وأقول إن هذه المنطقة كانت فيها أديان أخرى، يعني أديان ذات طبيعة توحيديّة مثل المسيحيين واليهود وحتى الزرادشتيين وأديان من نوع آخر مثل البوذيين والهندوس إلخ.. في مناطق كثيرة. هذا التنوع كان يستدعي اتخاذ موقف مسالم مع هؤلاء. من هو موحّد فهذا قد أفضى مبدئيا وعمليا إلى اتفاق، ومن هو خارج مسار التوحيد أو على حافته فلا إشكال في التعاطي والتواصل معه. لكن للأسف هذا العنف الذي حصل منذ الخليفة المتوكل بشكل خاص أثّر في سمعة هذه الحضارة وأعطانا صورة سلبية جداً عن قتل الناس على أساس الدين، وهذا غير صحيح. المفروض أن الإسلام جاء رحمة للعالمين.
وفكرة وزارة الزندقة شاهد بسيط، فهناك شواهد رهيبة مرعبة فيها قسوة وعنف وتنكيل. ولا يمكن أن أقبل حضارة تمارس كل هذا العنف والقسوة، وأعتبرها كاملة وأعدّها غير مشوبة. بالعكس، أنت تعرف حتى داخل المجتمع الإسلامي كان هناك عنف غير مبرر، وعند الخلفاء وطريقة تآمرهم على بعضهم وقتلهم بعضهم داخل الأسرة الواحدة؛ هذا في الحقيقة يتنافى مع طبيعة الإسلام، لكن هذا ما حصل بالفعل؛ ومهمتنا أن نشخص هذه الأخطاء حتى ننبه المسلمين إلى أنه كان هناك دين واحد مهم هو خاتم الأديان، ولكن كانت هناك أيضا ممارسات غير صحيحة بالمرة ولا تليق بهذه الحضارة.
الكثير من تدخلاتك تثير جدلاً، لكنك حين طرح عليك مرة سؤال: “هل الله موجود” أحلت السؤال فوراً على الإيمان. يبدو في الأمر نوعا من التواضع المعرفي، الذي نحتاجه اليوم ويتقاطع مع مقولات “الدين في حدود مجرد العقل”، بما أن تصور كانط كان نوعا من الحسم بكون وجود الله ينبني على التسليم وليس التدليل.
أنا لا أعتبر هذا الرأي مرجعاً، فالإيمان عندي لا ينبني على التسليم. الإيمان ينبني على التدليل وعلى فكر خصب وعميق ومعرفة تامة وعميقة جدا للحياة وللعالم، ليس بالتسليم إنما بالعلم والثقافة الراقية ومعرفة تاريخ الشعوب وتاريخ الأرض وتاريخ الكون. الأمر بالنسبة لي أبعد بكثير من هذه المقولات المبتسرة الصغيرة الضاغطة على الإنسان.
عمليّا لا أدلة متوفّرة بالنسبة للمؤمن ولا بالنسبة للملحد ولا بغيرهما، ولكن لنمر إلى السؤال الموالي. بخصوص مبدأ الإيمان والتسامح، تتردد دائما مسألة حوار الأديان. وأنت قلت إن “الحوار الإسلامي المسيحي لم يفض إلى أيّ شيء، وظل العصاب الديني هو المسيطر على كل طرف”. ألا تعتقد أن التصور يبدأ “شموليا” لدى كلّ طرف، وبالتالي سيظل هذا الحوار “وهما” خالداً أو “حلما” يراود البشرية؟
الأديان لا تتحاور ببساطة. هي لم تفعل ذلك قطّ. وحتى إن كنا نظنّ أنها تحاورت فهذا كان أمرا شكليا أو مجرّد مجاملات، أو على الأقل اتقاء شر الآخر لوهلة من الزمن. تأكد أن كل دين يعتقد أنه عرف الله وهو الدين الصحيح. وإلاّ كيف ينفلت الناس من عقيدة نحو أخرى بوصفها الأفضل، ولماذا سيبقى، مثلاً، شخصٌ على ملة معينة وهو يؤمن بأنها غير صحيحة أو تقدّم ديناً ناقصاً؟ لكل هذا لا يوجد حوار حقيقي بين الأديان.
في المنطلق والمبتدأ يتعين أن ينتصب هذا الحوار على التكافؤ. وكل توقيع روحي يحقّ له أن يوجد وأن يعتنق عقائد يراها صالحة. الأمر لا يتطلب منا أن نذهب إلى حد الديانات بشكل أعمّ. لنتطرق، مثلاً، إلى الطوائف داخل الملة الواحدة، التي لا تجد سبيلاً للتحاور مع بعضها وتتقاتل حد الفناء الآخير. إذن ماذا فعلنا بأنفسنا حتى نلجأ إلى هذه الوسائل العنيفة؟ أنا ضد هذا العنف في كل شيء، حتى في هذا الموضوع.
يعني أنت تؤكد أن حوار الأديان سيبقى “وهما”.
نعم وهم. وليت الناس يستطيعون أو يصلون إلى مستوى حوار الأديان المتكافئ، حيث كل واحد يعترف بدين الآخر. أنت الآن تجد حوارا مسيحيا إسلاميا، في الاجتماع يبتسم كل منهم إلى الآخر، لكن عندما يغادرون اللقاء يرى كلّ منهم أنه يعتنق الدين الأفضل والأحسن. وهذا مبدئيا غير صحيح. هذا ليس حواراً. الحوار كما أتحدث لك أنا الآن عنه يقضي بأن كل الأديان حتى لو كان عدد معتنقيها في المجمل شخصين فقط، لابد من احترامها. هو في النهاية خيار للاتصال بالله على طريقة كل فرد، ولا ينبغي أن نفرض عليه شيئا آخر. يمكنه لاحقا أن ينفلت من هذه العقيدة إن شاء، وهذا حقه وأمر متروك له بشكل حصري.
أنت تلحّ بالمقابل على أن “القراءة العلمية للأديان هي التي تهذّب نفوسنا”، ولكن ما يراه البعض هو أن ثلة من المتنورين حين بدؤوا دراسة التراث الديني، خصوصاً الإسلامي، وضعوا “حواجز” ضد الفقهاء. ألا تعتبر أن “التعاون” مع مؤسسة الفقيه مرحليا ضروري في سبيل وضع أسس قراءة علمية “معاصرة” تؤدي إلى نوع من التوافق بالنظر إلى دورها ومفعولها داخل المجتمعات؟
لا، الفقيه أو رجل الدين هو أصلا شخص غير علمي. هو يجلس في منطقة المشكلة. وهو عينة أستطيع فحصها كباحث في الأديان. وحتى أكون صريحاً معك، هو أنجز مهمته وأبدى رأيه في تاريخ الأديان أو في دينه. الآن الأمر متروك للعالم الذي هو محايد وينظر إليه وإلى غيره بطريقة أخرى. الفقيه لا يقبل هذا الأمر لكونه ربما يريد مشاركة. لكن هذا لم يعد ممكناً. يمكنه أن يشارك في مؤتمرات حوار الأديان وغيرها، لكن في علم الأديان لم يعد له شيء يقدمه لكون هذا العلم يقوم به المختص، الذي يتوفر على قدر كبير جداً من الحياد ويقف على المسافة نفسها من كل الأديان.
وهذه المسافة متحصّلة من خلال معارف وعلوم وثقافات تحتاج اطلاعاً كبيراً جداً وموسوعيّا. إن هذه الشروط تمنح الدارس درجة علمية تخول له فحص الأديان ومقارنتها. وأنا أعرف مجموعة أسماء لا أريد أن أذكرها تمكنت من استيفاء هذه الشروط، لكنها مع الأسف انحازت بشكل واضح إلى دينها حين بدأت دراسة هذه العقائد المطروحة في التاريخ. وهؤلاء كان يفترض إخراجهم من خانة العلم ووضعهم على هامشه لأن العالم مهما كان تخصصه لا بد أن يكون محايداً قدر الإمكان.
أنا أعرف أنه قد تكون هناك، طبعا، ميول نفسية ودينية وفكرية وإيديولوجية إلخ، لكن الأمر يحتاج تجرداً على قدر الاستطاعة للترفع عن الانحياز وتقديم “الحقيقة” كما هي من وجهة النظر المتوصل إليها. أما أن تأتي بقبعة علم الأديان وأنت متخصص فيها، ثمّ تبدأ بوضع أفكار لصالح الدين الذي أنت فيه ضد آخر، فهذا يعيدنا إلى الدرجة الصفر. وأنا أسمي هذا التيار بـ”العلوم المزيفة”. ومن يحمل لواءها سينال عقابه. لا أقصد العقاب عنفاً، وإنما هو سيأخذ مكانة هابطة جداً في مكانة العلماء لكونه لم يحافظ على هذه الأمانة النفيسة.
(مقاطعا) أنت تتحدث نظريا، لكن إذا نزلنا إلى الميدان سنجد أن الفقيه ما زال فاعلاً أكثر المثقف ومن عالم الأديان..
طبعاً. والجماهير تريد هذا. ما شاء الله هي تريد أن تعيش بهذا التخدير دائما، وتريد أن تطمئن نفسها بكونها على حق، وأن ما وجدت عليه الأجداد غير مجانب للصواب. الناس يرفضون الحقيقة، ولا يقبلونها. لكن هل بعد 1000 سنة سيبقى الإنسان هكذا وكأننا لم نقم بأي شيء؟ الفكرة بسيطة جدا، كلنا نحتاج إلى الأديان، كل البشرية تحتاج إلى الطمأنينة. لكن بشرط أن تضع الدين في حجمه العادي وفي مكانه الطبيعي. نحتاج إلى إقامة علاقة نقية وصادقة مع الخالق، وأن ينصرف الإنسان إلى حياته بدقة علمية صحيحة كليّا حتى يساهم في نهضة المجتمع.
أما إذا كنا نريد شيئاً آخر فهذا يعني أننا نتمسك بوهم معين، وأننا لم ننظف بعد أنفسنا من هذه الاتجاهات الأيديولوجية بشكل عام. الفقه لا بدّ أن يعاد فيه النظر. اليوم هناك قانون ينظم حياة الناس، وهناك أعراف للحياة الحديثة يمكن أن تساهم في عملية التنظيم هذه. نحن لا نحتاج أبدا الفقيه في كلّ شيء. يمكنُ أن يقتصر دوره على بعض الأمور الشّخصية، لكن لا نحتاجه في بقية الحياة مطلقاً. لا حاجة لنا اليوم بالفقيه ولا حتى في المستقبل. بعض الناس يخالفونني الرأي وهذا متروك لهم.
أشرت إلى الحداثة، وأنت تعرفُ أن سياقنا التداولي عرف نقاشا متعلقا بهذه الحداثة، التي هي من بنات الحضارة الغربية، وهناك من يتمسك حتى اليوم بها، رغم النقد الحاد الذي تعرضت له حتى في الغرب نفسه. بعد “البوار” الذي تعرفه القيم الأخلاقية لدى “الآخر” هناك من يعتبر أن “الحداثة لم تعد نموذجا”. ما رأيك؟
أنا أضرب لك مثلاً من الواقع وهو الصين. أنت تعرف أن الحضارة الصينية انتهت سنة 1912 عندما سقط الإمبراطور الأخير بوئي وأصبحت الصين جمهورية. طيلة القرن الماضي مرت بلاد التنين بالعديد من المحطات إلى غاية سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار جدار برلين. في 1991 عندما سقط المعسكر الاشتراكي أفاقت الصين وقالت إن الخطر قادم إلينا. الفكر الشيوعي بدأ يسقط ونحن فكرنا شيوعي بطريقتنا الخاصة، فما البديل؟ فكروا بداية في الإصلاحات، لكنهم خلصوا إلى أنها ستؤدي إلى تفكك البلد مثلما تفكك الاتحاد السوفياتي، فامتنعوا عن هذا.
في النهاية اهتدوا إلى ضرورة البقاء في المنظومة، أي في النظام الشيوعي، ولكن يمارسون داخلها الاقتصاد الحر والرأسمالي. منذ 1991 إلى الآن ليس زمناً طويلاً، لكنهم بنوا بالفعل منظومات علمية وتربوية وثقافية وصناعات وتكنولوجيا إلى أن أصبحوا اليوم قوة شديدة ورهيبة جدا، تنافس أو على الأقل لها مكانة كبيرة جدا في الحضارة الحديثة. هي لم تبن نفسها على أساس صيني تراثي قديم أبدا. فسألهم السائلون: أنتم دخلتم في الحضارة الحديثة كيف ستحمون أنفسكم من شرورها؟ وهذا يحيلنا على عمق سؤالك. قالوا: عندنا تراثنا الكونفوشيوسي سنعتمد عليه، كما سنتكئ على تراثنا الأخلاقي.
الصين تشكل الآن قطباً إلى جانب أمريكا، وحجمها يكبر. دعني أعود إلينا، لماذا لا نتخذ المسار نفسه وفق شروطنا الخاصة؟ فنحن أيضا، بغض النظر عن السلبيات التي حصلت في التاريخ الإسلامي، لدينا كذلك تراث أخلاقي جيد، غير أننا لا نعرف استثماره. دائما هناك مشاريع غير متحققة. الحل بسيط جدا هو أن نساهم في الحضارة الحديثة مساهمة كبيرة كما ساهمت الصين، ونبني قاعدة علمية وتكنولوجية كبيرة، وغير ذلك يعني انقراضنا.
وأثناء مساهماتنا فالمشكلات التي يمكن أن تترتب عن ذلك لا بد من حلها بأخلاقيات تراثنا. أما أن نقول إنه يتعين أن نجعل كل الناس في العالم مسلمين فهذا معناه أننا نحكم على أنفسنا بالفشل، وسنوضع في الهامش ونُدمّر دون أن نشعر. طريق المنافسة الصحيحة واضحة. لنكوّن أولا مجتمعا علميا راقيا وننجز أشياء تنافس الحضارة الحديثة، ثم عندما تصادفنا مشكلة نحليها على تراثنا وعلى حكمائنا الجدد.
تقصد أنه لا غنى عن الحداثة كقيمة (كما يقول عبد الله العروي) كأفق نهائي لمستقبلنا؟
نعم لا غنى عنها. الأمر غير ممكن. البشرية ودعت النمط الوسيط في العيش. لم يعد لذلك النمط حيث كانت المجتمعات مبنية على أساس ديني شمولي أي وجود. اليوم التجمعات البشرية تنتصب على أساس مدني علمي، وقد مضت دول كثيرة في هذا الطريق، والأمر لا يحيل إلى أي ذوبان أو انسلاخ من الهوية والخصوصية. لكن المطلوب منا هو أن نساهم في هذه الحضارة، وأن نغدو بدورنا قطباً. الصين مرشحة لتكون القطب الأول بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا مرشحة كذلك، والهند أيضا، وقد تنفصل اليابان قليلا عن انغماسها مع أمريكا والغرب وتصير قطباً.
هناك اقتراحات وحلول، أولها بناء الاقتصاد، وبناء الإنسان، وبناء التكنولوجيا. أما أن نظلّ ملقون على السرير ونريد بناء حضارة فهذا غير ممكن ويعني انقراضنا الحتمي. السؤال المطروح: هل يستطيع الإنسان العربي والمسلم أن يعمل من الساعة السادسة صباحاً إلى الساعة السادسة مساء بجدية وبدون ضياع وقت؟! هو لا يستطيع لكونه غير مهيّأ لذلك. هو تدرب على التحايل في العمل وعلى التسويف وغيرهما. ولذلك الحل هو أن نعيد بناء الإنسان في منطقتنا.
بخصوص الحداثة والدين، هناك مفكرون التقطوا التصوف النظري في السياق الإسلامي، واعتبروه الشكل الأنسب للمسلم الحديث أو المعاصر. الفيلسوف التونسي المسكيني، مثلا، يصفه بمسلم “ما بعد الملة”، ويعلن أن التّصوف يتقاطع مع الإيمان بلا حدود. هل تتفق مع من يقول إن العودة إلى التصوف يمكن أن تنقذ المسلمين فعلاً من الطائفية والاقتتال والتعصب؟
التصوف عظيم ومهم في مكانه وفي زمانه، خصوصا في العصر ذهبي للتصوف. لكنني ضد هذا التصور الذي يعتبر أن التصوف يمكن أن يقدم أجوبة عن راهننا الديني. التصوف ينطوي على مشكلة غاية في الخطورة، هي أنه يصرف الإنسان عن العمل. ونحن تنتظرنا “جهنم” من العمل التي يتعين القيام به. كيف يمكن أن نقبل تصوف الإنسان في وقت نحتاجه أن يشتغل ليلا ونهارا ليكون منتجا؟ هذا لا يجوز. التصوف حل فردي وليس جماعيا. الأمر صعب جدا.
نعم، نحترم التصوف في مكانته الرائعة، ولكنه ليس حلا للجماعات البشرية لأنه نوع من التخدير. إنه أفيون جديد لا يمكن أن نقبل الدعوة إليه. ومن ثمّ لا أحبذ هذا الانشغال بالذوبان في الذات الإلهية لكونه لا يقدم لنا حلولا لمعضلاتنا الحالية. إذا اختار الإنسان، يعني لوحده كفرد، أن يدخل غمار التصوف فهذا اختياره، مع أنني لا أشجّع عليه أحداً.
السؤال يتحدث عن التصوف النظري في الإسلام، الذي يعتبره مفكرون معاصرون أنه وجه للإيمان بلا حدود أو الإيمان الحر الذي ظهر في سياق الحداثة..
صحيح، لكن أين مكان العمل؟ أعتقد أن العمل هو الذي يحرج التصوف. التصوف لا يشجع على العمل ولا على الإنتاج. مستحيل أن نفكر في هذه المسألة أو أن نحيي التصوف. يمكن أن نستأنس به اليوم أو نراه وجهاً مشرقاً للماضي، لكن لا أقبل أن نعدّه بديلاً إطلاقاً.
تصورك واضح، ومنه أنقلك مباشرة إلى نهاية هذا الحوار. ما هي تكهناتك بخصوص هذا العالم أو هذه الحضارة المعاصرة، التي سيطرت فيها المادة بعد أن سيطر الدين في حضارات سابقة كما تقول؟
يبدو لي أننا نقف على حافة انفجار كبير جدا لأنه تراكمت عوامل كثيرة جدا لهذا الانفجار أو لحصوله على الأقل. الولايات المتحدة الأمريكية غير مستعدة أبدا للتفاهم، وبما أنها تقود القطب الغربي بأكمله فهي غير مستعدة للتفاهم أو التنازل عما تريد. هي تريد اقتصادها أولاً، وعملتها ومكانتها وجيوشها وتصنيعها وعلومها هي الأساس وهي السائدة. لا يتوفر لدى الأجهزة الأمريكية أيّ استعداد للتضحية بأي شيء ولا بقبول منافسين جدد. وهذا في تصوري يمكن أن يؤدي إلى انفجار.
لنأخذ، مثلا، ما يجري في منطقتنا بخصوص قضية إسرائيل، فأمريكا تقف طولا إلى جانب الدولة العبرية، وأنت رأيت خطاب بنيامين نتنياهو قبل أيام في الكونغرس والتصفيقات، رغم أنه قاتل ومجرم. لم يسألوه، مثلا، لماذا قتلت هذا العدد من الأطفال؟ بحجة “محاربة الإرهاب” لا أحد لامه لماذا لم يتجه مباشرة إلى من يعتبرهم “متطرفين”. لم يعد خافيا أن أميركا تعتبر إسرائيل الكتيبة المتقدمة لها في المنطقة. لماذا؟ لأنها تعرف أن هذه المنطقة هي حبلى بالثروات، وهي رقعة لها شعوب أسرها سهل، فأكثر منطقة يطمع بها بالعالم هي منطقتنا.
المشكلة قائمة والتوتر حاصل والقادم سيئ. بكل صراحة أقول لك سينفجر العالم بأكمله في يوم من الأيام، وستحصل فيه استقطابات كثيرة لا أستطيع التكهن بنتائجها. ولكن هذه السلالة التي أنتجتها الحضارة الغربية ستنتحر. وهذا لا يعني أن الحضارة الحديثة ستسقط، وإن سقطت في أمريكا وأوروبا، ففي الصين وفي روسيا وفي بقية العالم المتحضر والعالم التكنولوجي ما زال يوجد من يحميها. أما نحن، فلا نستطيع أن نتوقف الآن عن حياتنا المليئة بالاعتماد على الأدوات الحديثة.
وبخصوص منظومة القيم فعادة ينشئها أهلها. نأخذ الحضارة الغربية ونستأنس بها، ولكن المادة الأولية الأساسية هي منظومة قيمنا وهويات شعوبنا وأهلنا وتراثنا. كل هذا يبقى مشروطاً بضرورة حذف كل ما هو سلبي وبتر هذا العنف الذي تحدثنا عنه في البداية وإدانته حتى نستقيم كأمة عظيمة تحتضن العالم كله بروحها، وتستطيع أن تقدم له شيئاً جديداً.
The post الماجدي: الحضارة الإسلامية انتهت.. والعالم بأكمله مرشّح للانفجار في أي لحظة appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.