إعادة قراءة لـ”الظاهرة الغيوانية”، بتعدد فرقها المغنية بالعربية الدارجة والأمازيغية، تحضر في أحدث كتب الناقد والأكاديمي حسن بحراوي، المهتم بمختلف المجموعات المرتبطة بالظاهرة، مؤرخا لها ولمنجزها، شعرا وموسيقى وقضايا، وباحثا في مشتلها المجتمعي والفني، والإشكالات الداخلية والخارجية التي صادفتها، ومناقشا ما كتب حولها ومدى دقة ما حملته من مسؤوليات وصفات جماهيرية وسياسية ومجتمعية.
هذا الكتاب، المهتم بمجموعات “ناس الغيوان” و”جيل جيلالة” و”المشاهب” و”إزنزارن” و”أوسمان” و”تكادة”، لا يحضر فيه مجرد مدح الظاهرة أو التأريخ لها؛ بل يحضر فيه تشخيص لتناقضاتها الداخلية وما أثمر محدودية بعضها أو حدّ من استمراريتها، مع تقديم خلاصات حول ما يفسر الانتشار الشعبي المغربي الواسع الذي عرفته “الظاهرة الغيوانية” في مقابل محاكمات “موسيقية” و”سياسية” لها سرعان ما خفت بريقها.
ومن بين ما يختص به مؤلف “بصدد الظاهرة الغيوانية” لبحراوي تقديم تفاصيل غير واسعة الانتشار حول ما واجهته كل مجموعة من المجموعات المدروسة؛ مما يفسر تغيرات مست أفراد مجموعات متعددة، أو حدت من غناء أغان، أو حدت من الأثر الشعبي لمجموعة في بلد من البلدان، مثل أغنية “العيون عيني” المحتفية بعودة الأقاليم الجنوبية إلى تراب المملكة التي غنتها “جيل جيلالة”، وكان لها أثر لاحق على موقع المجموعة في الجزائر.
وفي مقابل أثر الأغنية الشرقية وعجز “الغناء العصري” على “تقديم بديل محلي مقنع” مما “قلص من تواصله مع الأجيال الجديدة”، ومع طفوح الكيل “بألوان الطرب والموسيقى الرائجة في المغرب” من “الفنون التقليدية”؛ كانت الظاهرة الغيوانية “البديل التاريخي لأزمة فنية طال استفحالها، وحان الوقت لتجاوزها لكي يصبح الفن أخيرا في خدمة المجتمع”.
ولا ينفي هذا كون “العودة إلى التراث المغربي القديم من طرف هذه المجموعات قد شكل نقطة ارتكاز كبرى في تجربتها”؛ بل إنه مما يفسر “استهواء قطاعات عريضة من الجمهور المغربي ذي الأصول البدوية والمدينية سواء بسواء، وفتحت الباب أمام استعادته لهويته الذاتية التي عبثت بها” الألوان البورجوازية والحرفية، ونماذج الغناء العصري الرومانسي ذي المرجعية المشرقية، إضافة إلى انحطاط الأغنية الشعبية “المبتذلة” و”اجترارها للموضوعات والإيقاعات”.
هكذا أخرجت مجموعة مثل “ناس الغيوان” “الأغنية المغربية من حالة السبات والمراوحة إلى حلبة الشأن العام” وطنيا وعربيا، وأججت أعماق الجمهور الشبابي الذي كان مشغولا بتتبع “فتوحات موسيقى البوب الإنجليزية والأمريكية (…) أو موسيقى المنوعات الفرنسية (…) وخلصته من التعلق بصوت الآخر المختلف، الذي كان يسير به نحو استلاب محقق، وغير محسوب العواقب”.
ومع “الغيوان”، على سبيل المثال لا الحصر، “سيبرز الإنسان المغربي لأول مرة، بكل بؤسه وانسحاقه، كموضوع لأغنية تريد أن تعبر بغير سوقية، وتطرب بدون ابتذال، وتحتفي بالقيم الجماعية ضدا على النرجسية والنجومية المريضة”، علما أن الأغنية الغيوانية “لم تسع عبر مسارها الطويل، للتمترس وراء شعارات براقة تتخذ من السياسي ذريعة لاستلاب الجمهور العريض، وإنما سارت بوعي، وبكامل التلقائية في اتجاه استلهام أبرز ما في التراث الشعبي من لحظات مضيئة واستقطار نسغ الوجدان الجماعي المغربي”.
ومن بين ما يختص به الكتاب تفسيره الأسباب التي جعلت الظاهرة ككل بمختلف فرقها تدخل “مستودع التاريخ تقريبا” إثر ولوج “دائرة التكرار” بعدما كانت ترفع “شعار الإبداع ونشدان الأصالة” في سبعينيات القرن العشرين، وبعدما فجرت طاقات إبداعية خبيئة وجددت الأغنية المغربية وتجذرت بعمق في التربة الشعبية.
The post “الظاهرة الغيوانية” .. بحراوي يضع أداء المجموعات بين الإبداع و”التكرار” appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.