جاءت الذكرى الـ103 لمعركة أنوال، التي دارت في مناطق الريف المغربي خلال بداية عشرينيات القرن الماضي، لتستحضر مرة أخرى زخم الريفيين وصخب المغاربة حين كانوا يحلمون بالتحرر من ربقة الاستعمار الغاشم. لذلك، يعتبر كثيرون أنه لم يكن قط من قبيل التضخيم أو التهويل أو المغالطة بأن يصفها أحد الباحثين المغاربة بكونها “أكبر هزيمة عرفها جيش دولة استعمارية في العالم خلال القرن العشرين”.
ذكرى معركة أنوال، التي تقرر إحياؤها كل 20 يوليوز، يجد عبد الله يُعلى، الباحث في تاريخ الريف، أنها إشارة إلى مقاومة تستثمر كل شيء للنصر مثلما حدث في الفاتح من يونيو 1921 بـ”أدْهار أوبران”، وكذلك في منتصف يونيو 1921، حين انتصر الريفيون في معركة “سِيذِي ابْرَاهَمْ”، ثم معركة “إِغْرِيبَنْ”، التي كانت هي العلامة الفارقة في معركة أنوال التي يرجح الباحث أنها حدثت يوم 22 يوليوز.
ما الذي جرى؟
محمد بن عبد الكريم الخطابي، الذي “انتزع القيادة بتفويض من الشعب، نظرا لقدراته الفكرية والتنظيمية وحزمه وإصراره على مواجهة الاحتلال الاسباني”، حسب ما قاله الباحث محمد علي داهش، في كتاب “صفحات من الجهاد والكفاح المغربي ضد الاستعمار.. محمد بن عبد الكريم الخطابي”، فطن (الخطابي) إلى كيفية الانقضاض على المعسكر الرئيسي للجيش الإسباني: أنوال، لكنه قبل ذلك اضطر إلى مراوغة الجنرال سلفتري وتطويق حامية “إغريبن”، التي تبعد ببعض كيلومترات عن أنوال والتي كان جيش الاحتلال يعتمد عليها كخط أمامي وفضاء لتموين المعسكر.
تحكي المصادر أن المواجهات دارت أياما قليلة معدودة أثناء عزل “إغريبن”، اعتمدت فيها المقاومة الريفية بزعامة الخطابي حرب الخنادق التي استلهمتها حركات تحررية أخرى في العالم لاحقا، بما فيها المقاومة الفيتنامية بزعامة الشيوعي هوشي منه؛ لكن قوات إسبانيا لم تستطع أن تصد المجاهدين الريفيين، وظلت المواجهة غير محسومة في انتظار المرور إلى أنوال.
وفي هذا المسار، تقول مصادر تاريخية إن الخطابي خسر بعض المقاتلين بحكم العتاد العسكري المتطور للمستعمر.
ينسب علي داهش للخطابي القول التالي: “أيها الضباط، أيها الجنود، لقد قضيتم أربعة أيام في قتال مستمر أبليتم فيها البلاء الحسن، وقتل فيها أشجع قوادكم، فنعزيكم ونعزي أنفسنا ونعزي الشعب، وعلينا أن نعلم جيدا أن معركة يوم غد ستكون أقسى وأشد، فلا شك أن العدو يستعد ليوم غد بما لديه من قوة وعتاد. ولكني أومن أنه سیمنی بهزيمة بفضل شجاعتكم وثباتكم فاصبروا وصابروا لأنكم تدافعون عن الحق، والعدو يقاتل من أجل الظلم ولن ينتصر الظلم”.
استمرت الحرب منذ 15 يوليوز، وفق ما يضعه الباحث يُعلى في ورقة بحثية. لكن مصادر أخرى تفيد بأنه يوم 20 يوليوز خرج من أنوال جيش غفير يتكون من آلاف الجنود، ترجح مصادر أن عددها هو 10 آلاف؛ وتوجهت لتحرير الحامية التي حوطها المجاهدون. لكن العدو الإسباني حينها وجد إشكالات تكتيكية بحكم أن هناك جاهزية واستعدادا لدى المقاومين وأيضا صعوبة التعاطي مع الطريقة “المبتكرة” التي اعتمدوها والتي تتعلق بالخنادق، فحاولت القوات المحاصرة أن تخرج بدورها؛ غير أن المقاومة عملت على “إهلاكها” ودخل المقاومون “إغريبن”، وغنموا بما يوجد فيها من عتاد عسكري، وفق مصادر تاريخية.
كان الخطابي عرض الاستسلام على الجنرال خوليو بنيتيث، لكنه رفض؛ وشكل دخول القشلة ظفرا بعتاد ساعد المقاومين طيلة المعركة التي ترجح مراجع أنها تواصلت حتى وقت متأخر من الليل بما أن الريفيين المغاربة وقتها توجهوا إلى نقط أخرى غير بعيدة جغرافيا؛ وهو ما دفع الجنرال سلفستري، في اليوم الموالي 21 يوليوز (هناك من يقول 22)، إلى محاولة التصدي لتحرك الريفيين الذين اقتربوا من نقطة أنوال، وحدثت على مستوى هذه النقطة مواجهة شرسة وحاسمة كانت بمثابة “الضربة القاضية” للجيش الإسباني المحتل، وكانت نصرا حقيقيا ما زال يشكل جرحا عميقا في الوعي التاريخي الإسباني، لكونه خسر حينها قائدا عسكريا ذا خبرة كبيرة: سلفستري، الذي لم يتم العثور على جثمانه.
في رواية أخرى، تقول إن الهجوم على أنوال كان “خاطفا” ولم يكن ضمن برنامج الخطابي، وكان الأخير غائبا عنه وتوصل بما حدث فيه من رسول بعث به القائد الريفي أحمد بودرة؛ يشعره بأن “الإسبان بذلوا جهدا كبيرا لنسف قاعدتهم في أنوال بما فيها من مستودعات للأسلحة والذخيرة ومحطة الراديو، إلا أن الوقت لم يسعفهم لاشتباك المجاهدين معهم في معركة خاطفة أربكتهم، وجعلتهم ينسحبون منها، وأن ثمة معركة تدور الآن بين المجاهدين والإسبان الفارين، بالسكاكين والسلاح الأبيض والعصي والحجارة، بعد أن توقفت مدفعية أنوال عن العمل تنفيذا لأوامر الجنرال سيلبيستري بالانسحاب”، وفق ما جاء في كتاب “محمد بن عبد الكريم الخطابي ودوره في تحرير شمال إفريقيا 1920 ـ 1963”.
“ما بعد أنوال”
كانت تداعيات هذه المعركة جد خطيرة، لاسيما أن الناجين منها من جيش إسبانيا كانوا “قلة” فقط لاذت بالفرار، ومعهم قائد عسكري سقط أسيرا لاحقا في معركة العروي في غشت؛ وقد صارت معروفة في التداول التاريخي في شبه الجزيرة الإيبيرية بـ”كارثة أنوال”، فالتقديرات تدفع بفقدان جيش إسبانيا نحو 13 ألفا من الجنود الذي لقوا حتفهم خلال المواجهة مع ريفيين بارعين في حرب العصابات؛ مع أن هناك من يرجح صعوبة تحديد العدد الحقيقي للخسائر البشرية لأن الجثث صارت مبعثرة في كل مكان.
إسبانيا طبعا لم تقبل هذا الإذلال؛ وتحكي مصادر تاريخية أن الحكومة الإسبانية قدمت استقالتها حينها بسبب هذه الخسارة، خصوصا الهزيمة في جبل العروي؛ وظلت الصحافة الإسبانية تكرس الشعور المقيت بالإهانة التي تم تجرعها في ساحة الوغى؛ وظلت تصف ما حدث بأنه “أفعال همجية”. كما تواصلت تداعيات المعركة حين أعلن الخطابي تأسيس الحكومة الريفية؛ وهو ما اضطر القوات الاستعمارية، سواء في المنطقة الخاضعة للحماية الفرنسية والإسبانية، إلى التحالف من أجل القضاء على الخطابي.
دخول فرنسا في التحالف مكن من قلب المعادلة لصالح قوات الاحتلال فتم الإجهاز على جمهورية الريف بعد خمس سنوات من عمرها؛ وتم نفي الخطابي إلى جزيرة منعزلة في المحيط الهادي؛ فانتقل لاحقا نحو القاهرة وظل مقاوما من هناك ومرتبطا بهم التحرير الذي دافع عنه في أرض المعركة، فظل حتى اليوم قائدا يحظى بمصداقية كبيرة داخل دفاتر حركات التحرر الوطنية في مختلف بقاع العالم.
وظل التدخل للقضاء على الحلم الريفي بمثابة نقطة سوداء في تاريخ قوات الحماية، بعد استعمالها غازات محظورة دوليا، مثل غاز الخردل. ولهذا يربط كثيرون “انتشار أمراض السرطان في تلك المناطق حاليا بسبب الامتداد التاريخي لهذه البدايات المرتبطة بأسباب الداء”؛ ولهذا رفعت مطالب قانونية وأيضا حقوقية لتعترف إسبانيا بهذا الأمر وتعوض الضحايا، وهي المطالب التي مازالت مرتفعة رغم مرور قرن من الزمن عن ما حدث.
وبقيت هذه المعركة لدى المغاربة بمثابة مؤشر على الرغبة المبكرة في التحرر، خصوصا في ظل معارك أخرى كانت حاسمة مثل معركة بوگافر ومعركة الهري ضد المحتل الفرنسي؛ غير أن الذكرى الـ103 لمعركة أنوال جددت ككل سنة ضرورة طرح موضوع أرشيف محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي ينتظر الباحثون والحقوقيون والمهتمون بالدراسات التاريخية أن تفرج عنه فرنسا حتى تكتمل الصورة حول حرب الريف وغيرها.
The post الذكرى الـ103 لمعركة أنوال. . حين تجرعت إسبانيا مرارة الهزيمة أمام الريفيين appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.