التضخم ببساطة هو الغلاء الذي لا تلحقه الأجرة أبدا، في سباق غير عادل بين كائن يقظ متحفز لا ينام وإن نام لا يعتمد على غيره ليوقظه، وبين كائن بطيء الحركة ليس لكسله نظير، وإذا نام لا يستيقظ إلا بحدث جليل أو بفعل فاعل خير، وفاعلو الخير في الاقتصاد قليلون حتى العدم. وحتى حين تلعن الشيطان (الأجرة) وتلحق بالأسعار فإنها ما تفتأ أن تجدها هربت منها وصعدت إلى الجبل.
يقول رجال الاقتصاد أن معدل التضخم في المغرب بين 1960 إلى اليوم هو 4.3 سنويا. يمكن أن ينزل الرقم إلى ناقص واحد سنة 1966 مثلا، ويمكن أن يصعد إلى 17.56 سنة 1974 لكن الدولة تجد أحيانا الوسيلة لاحتوائه بزيادات معقولة في الأجور، وقد تجد نفسها عاجزة عن ذلك لسنوات، مثل ما حدث بين 2011 و2023. هذا التضخم لا يهم المغرب فحسب وإنما هو ظاهرة اقتصادية عالمية، الاختلاف يوجد فقط في طريقة التعامل معها. من الطبيعي أن السيارة الجديدة التي كانت تساوي 4000 درهم سنة 1960 تساوي اليوم أكثر من 50000 درهم لكن من غير الطبيعي أن تجد نفسك غير قادر على الحفاظ على مستوى عيشك في ظرف عشر سنوات.
ولنفترض أنك موظف تقاعد سنة 1990 وكان أجرك 3000 درهم في السلم العاشر، وأنك حصلت على تقاعد مريح نسبيا، يصل إلى 2300 درهم (قبل إصلاح تعويضات التقاعد) فإن عملية حسابية تجعل تقاعدك السابق يساوي اليوم 5539 وهذا يعني أن التضخم يسرق منك 3239 درهما شهريا.
يعتقد الناس أن التضخم قدر لئيم يصيب الجميع، لكن الحقيقة المُرة أنه لا يصيب سوى الموظفين والأجراء، سواء أكانوا ناشطين أو متقاعدين، لأنهم يوجدون تحت رحمة من يؤدي لهم أجورهم، فإذا امتنع هؤلاء “الرحماء” أو تأخروا، وجد الضحايا أنفسهم سرقت منهم أرزاقهم بين شهر وآخر وبين سنة وأخرى.
كل الذين يشتغلون في البيع والشراء أو الفلاحة أو المهن الحرة لا يقلقهم التضخم، يبيع لك “الكساب” الخروف هذه السنة بثمن 3000 درهم فإذا داهمه التضخم باعه لك في السنة المقبلة بثمن 5000 أو 7000 حتى بائع النعناع يبيع “ربطته” اليوم بدرهمين وقد يبيعها السنة المقبلة بأربعة دراهم. وكذلك المحامي والمهندس المعماري والميكانيكي وغيره. وقد كان المغاربة منذ عشر سنوات يكترون شقة من غرفتين وصالون بألف وخمسمئة درهم وهي اليوم لا تنزل عن 2000 أو 2500 درهم في أكثر المدن رخصا.
أنا، عبد ربه الضعيف، اشتريت سيارة جديدة قبل عشر سنوات بأقل من عشرة ملايين، والسيارة نفسها تباع اليوم بثمن 140000 درهما، بينما أجرتي لم تتغير ولو بدرهم واحد. وما قيل عن السيارة يقال عن التجهيز واللباس والتغذية ومصاريف أخرى كلها هربت مني وطلعت إلى قمة الجبل.
هناك مغالطة خطيرة يريد بها أصحاب النيات السيئة جعل التضخم آفة تصيب الجميع، لكن العدل يقتضي تعيين الضحايا الحقيقيين لهذا الوحش الذي يراد لنا التسليم والاستسلام له. حتى أننا لا نشك أن أصحاب الشأن المالي يريحهم ما يصنع التضخم فينا، لأن من أسهل الحلول عندهم لمواجهة الأزمات النقصُ من مستوى العيش والاستهلاك عند المواطنين، وقد يلجؤون إلى النزول بقيمة العملة الوطنية إلى الحضيض كما وقع في الجزائر سابقا وما يقع اليوم في مصر، حيث تشتري كيلو طماطم “بشواري ديال الفلوس”. ونبقى نحن نلوك الجملة المقيتة “لا غلا على مسكين”.
The post التضخم، سارق الأرزاق appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.