قراءة مستمرة لفكر محمد أركون، بوصفه “مؤرخا مضادا” “رافضا للحقائق والتفاسير المؤسساتية” قدم “نقدا إبستمولوجيا للمنهجيتين؛ الإسلامية التقليدية، والاستشراقية الوضعية”، تحضر في الجامعة والنقاش الثقافي المغربيين، حفرا في عطاء مفكر جعل “تفكيره منصبا على مسألة المُعاش واليومي، ومسألة اللامفكر فيه، والمستحيل التفكير فيه من تراثنا العربي والإسلامي”.
من أحدث هذه المحطات أطروحة دكتوراه للباحث بوجمعة الأعرج، نوقشت بعنوان “الاستشراق والمنهج.. بحث عن رؤية جديدة للظاهرة الدينية في مشروع محمد أركون”، ومُنحتها ميزة مشرف جدا، بقطب دراسات الدكتوراه بجامعة ابن طفيل في القنيطرة، وترأس لجنتها العلمية محمد آيت حمو، وأشرف عليها عبد الجبار أبو بكر، وحضر في لجنتها كل من عبد القادر ملوك ومحمد الصادقي وبشرى عسال ومصطفى العطار وعبد الحفيظ الريح.
وأوضحت الأطروحة أن مؤلف كتاب “من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي” قد دخل في “صدام خلاق” مع المستشرقين، “ولم يكن في نيته هدم خطاب الاستشراق؛ بل كان قصده تصحيح زلاته وتحيزاته، فاتخذ انتقاده طابعا إبستمولوجيا، يخالف به القراءات المتحيزة وغير الموضوعية”.
ولم يكن “هوس أركون بالخطاب الاستشرقي ترفا فكريا”؛ بل “وعيا نقديا”؛ فقد “حاكم مناهج المستشرقين من خلال مرجعيته الإبستمولوجية، وأدرك حجم الانسداد المنهجي الذي عرفته الإسلاميات الكلاسيكية في قراءتها للتراث العربي الإسلامي. ومن ثم دعا إلى الإسلاميات التطبيقية التي وُلدت من رحم الاشتباك الإبيستمولوجي مع خطاب الاستشراق”. وهكذا “شكلت رؤيته هذه منعطفا منهجيا في دراسة التراث الإسلامي وتجديده، كما حملت آمالا جديدة لإنعاشه وإصلاح أعطابه دون أن تعلن القطيعة التامة مع مكتسبات التراث الإسلامي”.
وخلصت الأطروحة إلى أن الخلاف بين محمد أركون وبين المستشرقين “كان خلافا في المنهج”؛ فالمستشرقون اعتمدوا على المنهج الفيلولوجي الوضعي كنوع من الفهم التاريخي للظاهرة الدينية، بينما اقترح هو في مقابل ذلك “المنهجية التعددية” التي “يتداخل فيها التفسير الاجتماعي والنفسي مع البحث التاريخي والتحليل الألسني، بُغية استعادة المعنى الشامل في فهم الظاهرة الدينية”.
ولهذا، خالف أركون، “في استراتيجياته الحجاجية، نتائج المستشرقين في أبحاثهم؛ فالمستشرق وهو يدرس الإسلام، استنتج أن القرآن ليس إلا تكرارا للعهدين القديم والجديد، إنه مجرد تقليد على حد زعمه. بينما محمد أركون رأى أن للإسلام أصالته، وينبغي أن يُدرس وفق منظور شامل؛ أي دراسة مقارنة بين الأديان التوحيدية”.
ومن بين دروس الأطروحة أن “نقد الخطاب الاستشراقي لا يعني هدمه؛ وإنما علينا الاعتراف بأنه قد أضاء التراث العربي والإسلامي، حيث أخرج نصوصا من غياهب النسيان”، وفي واقع الحال “العلاقة بالاستشراق، هي علاقة الأنا بالآخر الحضاري – الغرب، علاقة تتجاوز الجغرافيا إلى مستوى قيم مشتركة ومبادئ عليا متأصلة في الأديان التوحيدية”.
لكن تتوازن هذه الخلاصة بجناحين، فتقول إن “الحاجة إلى ثقافة العيش المشترك على ضفة المتوسط من شأنها أن تساعد الأنا على التخلص من عقدة النقص، كما من شأن هذه الثقافة أن تذكر الآخر بعدم اختزال التاريخ الإنساني في المشروع الأوروبي المنتصر، مع ضرورة وعي النخب العربية المثقفة بآليات اشتغال ‘الكولونيالية البيضاء’، الحاملة لآمال جديدة متمثلة في تحرير الشعوب من الديكتاتوريات”؛ وهو ما يعني أن “نقد المفكر العربي للاستشراق الكلاسيكي يجعله على بينة بآليات ووسائل اشتغال ما بعد الاستشراق”، خاصة أن “صناعة الخوف وتصديره إحدى هذه الأدوات الغربية الجديدة التي راحت تُعيد إنتاج صور نمطية عن المسلمين تحت يافطة “الحرب على الإرهاب””.
The post أطروحة تتناول “أركون والاستشراق” appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.