يعودُ الباحث خالد طحطح، في أحدث كتبه، إلى السجال الفكري بين مفكرَين مغربيين بارزين هما محمد عابد الجابري وعبد الله العروي سابرا غور مسيرتهما العلمية والسياسية، مع وقوف على تناقض مشروعهما الإيديولوجي والفكري؛ فقد كانا على “طرفي نقيض في مسألة رؤيتهما للتراث والحداثة”.. ففي الوقت الذي يؤكد فيه الجابري في نقده للتراث على “فكرة الوصل لا الفصل”، يعتبر العروي “التراث مميتا في ثقافتنا”، فبَنى على قوله هذا “فكرة ضرورة القطيعة”.
جاء هذا في كتاب “نقد التاريخانية.. بين الجابري والعروي”، الصادر حديثا عن دار توبقال للنشر، الذي يرى فيه طحطح أن العروي “لا يُقر بموت الثقافة التقليدية بالرغم من دعوته إلى التحرر من قيود الماضي، أي من الأفكار التي تحملها تلك الثقافة. لقد حصر العروي دعوته للقطيعة في المجال العام والأمور المادية التي تُعنى بالمعاملات والاقتصاد والسياسة والتدبير، لأننا نعيش في مجتمع متعدد وفي عالم مبني على قيم المبادرة والإنتاج والاقتصاد المفتوح، أما ما يتعلق بالعبادات وأمور الغيبيات فهي غير معنية بالقطيعة في تصور العروي، ولهذا ما فتئ يدعو في كتاباته الصادرة مؤخرا إلى تأويل كل ما ليس بتعبد، مع تسليمه بصوابية المذهب الظاهري لابن حزم حين يتعلق الأمر بتطبيقه على أمور العبادات والغيبيات”.
وتابع الكاتب: “إن الفكر التاريخي أو التاريخانية عند العروي تعني تفسير الوقائع الإنسانية بشروط تكوينها، ولا يتوانى عن وسم مذهبه هذا في كثير من كتاباته وحواراته باسم “الواقعية” أو “النفعية” أو “البراجماتية” أو “منطق السياسة” القائم على مفهوم “المصلحة”. وعليه، فألفاظ التاريخانية والعقلانية والليبرالية والنفعية هي تعابير وأسام تتردد عنده كثيرا لتُحيل على أمر واحد هو الانتصار لدعوة الحداثة”؛ لكن “هذه الدعوة للحداثة القائمة على مفهوم التاريخانية الملتبس جعلت كثيرين ينتقدون طروحاته، وكان الجابري أحدهم، بل هو أول من دخل في سِجال فكري مع المؤرخ عبد الله العروي”.
ومن بين ما يضمه الكتاب تذكير بتزامن نقد الجابري للعروي مع سياق “التحضير للمؤتمر الاستثنائي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية كمنظمة تُناضل من أجل الديمقراطية والعدالة والحداثة، وقد كان من المفيد -آنذاك- إثارة نقاش إيديولوجي على مستوى ثقافي يستقطب اهتمام الشباب، وكان الأستاذ العروي قد نشر حينئذ كتابه “العرب والفكر التاريخي” بالعربية وأجزاء منه بالفرنسية في كتابه “أزمة المثقفين”، يدعو فيه إلى مشروع إيديولوجي للمثقفين العرب قوامه استيعاب الفكر الليبرالي الغربي كما تبلور في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وتبني ماركسية تاريخانية، من أجل تكوين “نخبة مثقفة قادرة على تحديثها (الأمة العربية) ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، ثم بعد تشييد القاعدة الاقتصادية يتقوى الفكر العصري ويُغذي نفسه بنفسه”.
في هذا الإطار، “نشر الأستاذ محمد الجابري أربع مقالات في نقد مشروع التاريخانية حاول فيها تِبيان تجاهُل العروي للتجارب النضالية التي خاضها المغرب، وكذا سكوته عن دور الاستعمار والاستعمار الجديد في قمع الحركات التحررية في العالم العربي ومجموع العالم الثالث. نشرت هذه المقالات النقدية في الصفحة الثقافية الأسبوعية لجريدة “المحرر” ما بين 15 دجنبر 1974 و5 يناير 1975، تحت يافطة: مع الأستاذ عبد الله العروي في مشروعه الإيديولوجي”.
وواصل طحطح: “كان عبد الله العروي قد نشر، إلى حدود سنة 1975، كتابَيه ‘الأيديولوجيا العربية المعاصرة’ و’العرب والفكر التاريخي’؛ والكتاب الأخير كان موضوع مناقشة الجابري له من زاوية فكرية، ويحمل مقاله النقدي الأول عنوان “إشكالية تفتقد أهم عناصرها”. أما المقال الثاني فقد نشره تحت عنوان “ماركسية تاريخانية أم تاريخانية لا ماركسية”، وأتبعه بمقال ثالث بعنوان “نخبة النخبة.. وبرنامج عملها”، والمقال الرابع والأخير اختار له عنوان “الليبرالية والسلفية”.
لكن “لم يتجاوب العروي آنذاك مع انتقادات المرحوم محمد عابد الجابري وحواره معه توقف عن الكتابة في الموضوع وعلق في نهاية مقاله الأخير قائلا: (فلربما ظهر للبعض أن هذا الحوار مع الأستاذ العروي قد طال أكثر من اللازم، والحقيقة خلاف ذلك، فكتابات العروي غنية حقا، موحية حقا. إنها من الكتابات القليلة في العالم العربي التي تعدت مرحلة التجميع: التجميع بين الآراء والتجميع بين الكلمات والجمل. إن الأستاذ العروي مفكر عربي يكتب عن معاناة وعن اطلاع، ولو أن معاناته معاناة ذهنية فقط، واطلاعه اطلاع غربي أكثر منه عربي. وهناك جانب إيجابي آخر لا بد من إبرازه، وهو الجرأة الفكرية التي يكتب بها العروي، وتلك خصلة نفتقدها في كثير من المثقفين الذين يحجمون -تحت ضغط الظروف- عن إبداء رأيهم والجهر بما يعتقدونه صوابا وحقا، ولأن يقول المرء ما يعتقد فيخطئ خير ألف مرة من أن يسكت راضيا بزوال النسيان”.
طحطح، الذي نشر لأول مرة رسالة دبلوم الدراسات العليا للجابري منذ بضع سنوات، ذكر في أحدث كتبه: “نعلم، اليوم، من خلال رسالة دبلوم الدراسات العليا للجابري، أن المفكر الجابري كتب قبل العروي في حقل التاريخ، فقد ناقش رسالته لنيل دبلوم الدراسات العليا سنة 1967، وهي بعنوان “التاريخ والمؤرخون في المغرب المعاصر”، بينما أطروحة العروي في حقل التاريخ نوقشت سنة 1976 بفرنسا تحت عنوان “الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية.. 1830-1912″”. وبالتالي: “انتقل الجابري من التاريخ إلى الفلسفة، في الوقت الذي انتقل فيه العروي من العلوم السياسية إلى التاريخ. وبعد الاطلاع على الكتاب الأول في مسار الجابري، ونقصد “التاريخ والمؤرخون في المغرب المعاصر”، يتبين امتلاكه لوعي تاريخي عميق؛ فقد انفتح، منذ بداياته، على بعض المعارف المعاصرة الحاضنة آنذاك لفلسفته ورؤاه وتوجهاته. وللأسف الشديد، خسرنا الجابري المؤرخ الذي كان بإمكانه خلق نقاش أكثر عمقا مع مشروع العروي، فلا شك في أن الحس النقدي للجابري كان سيأخذنا نحو آفاق أبعد بكثير”.
ويبرر طحطح هذا التخمين بـ”اختلاف منطلقات الرجلين ولاختلاف مسارهما التكويني”؛ فقد “احتك عبد الله العروي بالمدارس الغربية، وكان أول من تأثر بمدرسة الحوليات ونشر بداية باللغة الفرنسية، عكس الجابري الذي نشر باللغة العربية وتلقى تكوينه في الجامعة المغربية؛ لكن إذا قارنا بين مساريهما، فأهم كتابات العروي هي التي نشرها في بداياته عكس الجابري، وما كتبه صاحب التاريخانية في مراحله الأخيرة -لو استثنينا السنة والإصلاح- لن نجد سوى ترجمات لا نختلف حول أهميتها، لكن بعضها سبق أن تُرجم. اشتهر العروي بكتاباته الأولى قبل أن يخفت صيته في مراحله الأخيرة، عكس الجابري الذي تطور مشروعه الفلسفي بوتيرة أسرع؛ فظل عطاؤه في مراحله الأخيرة أكثر عمقا من مشروع العروي الذي تشوبه الكثير من التناقضات”.
The post “نقد التاريخانية” يتأمل التناقض الإيديولوجي في سجالات الجابري والعروي appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.