درس في كيفية تذوق العلوم واكتساب الملكة الأدبية والقدرة على التعبير الفصيح عن مرادات النفوس، قدمه الفقيه المغربي مولود السريري، مدير مدرسة تنكرت العتيقة، في ختام دروس ألقاها شهورا شرحت “مقامات الحريري”، إحدى عيون الإبداع الأدبي باللغة العربية.
ونبه السريري إلى أن سبيل تحصيل ملكة التعبير الفصيح، خطا وقولا، هو “الكتابة”، ثم الممارسة اليومية، والاستماع للكلام البليغ، وقراءة الكتب الأدبية، وتحليل النصوص، والمحاورة؛ لأن “الذي لا يحاور لا يمكن أن يتغير”.
ثم أردف الفقيه المغربي شارحا: “لا يحتاج الحوار الناس، (إذا لم تجدهم) حاور الكأس، وأنت تحب ‘أتاي’، وحاور الكتاب، وحدثه، أخبره بما يقع؛ لكن حاول أن تتكلم بلسان عربي مبين. الكتاب لن ينتقدك، والكأس لن يسمعك، فلا تخف”.
كما ذكر السريري أنه “على قدر ما أولعت بالشيء حزته”، وتابع: “الحب للعلوم يجب أن يكون أمرا مطلوبا، وتنفير الناس من العلوم أدى إلى كره الناس لها، وخاصة في العلوم الشرعية بتعليم الناس بطريقة منفرة”؛ وبالتالي ينبغي العمل العصامي من أجل “تذوق الأدب، والكلمات، والعلم”. أما “الناس الذين لم يتذوقوا المعارف فلا يحبون أن يسمعوا الباحثين في المعارف العقلية. والعامي يتذوق ما يتعلق بالغريزة والأمور النفسية والعواطف، أما الأمور العقلية يحتاج تذوقها إلى التدريب”.
ضرورة تمرين الكتابة
قال مولود السريري إن “الصناعة الأدبية لا يمكن أن يقع التمكن منها على الوجه المطلوب بحفظ الألفاظ والاستشهاد على معانيها بالشواهد؛ بل الذي يجب أن يعلم أن هذه الصناعة لا يمكن أن يتصرف فيها على الوجه المطلوب إلا بالطرق التي تفضي إلى درك الملكة التي تقوم عليها، وهي الملكة التي تعطي القدرة على التصرف في هذه الصناعة على الوجه المطلوب؛ فلا يمكن أن تدرس المعرفة دون معرفة الغاية منها، وهي: القدرة على استخراج ما في النفس من المعاني والصور وجعلها كلمات”.
وأضاف المتحدث: “هذا لا يمكن أن يتحقق بحفظ الألفاظ مع جلب الشواهد على ثبوتها في اللغة، وربما امتدت الدراسة إلى المجاز. بل الغاية لا تتحقق إلا بالكتابة أولا، وهذا الفعل شرط في تكوين هذه الملكة، والكتابة هنا هي الكتابة الوصفية؛ أي أن تكتب عن شيء تصفه، على وفق قدرتك، ثم ترتقي في تلك الصناعة خطوة بعد خطوة فأخرى، ثم البحث عن مراجع تعين على المزيد من القدرة في هذا الميدان، ثم بعد ذلك تستدعي المعارف التي تدرسها في علم البلاغة”.
ثم تابع الفقيه المغربي: “ربما ينظر بعض الناس إلى أن البدء بالوصف البسيط مما لا يستحق الاعتبار، وهذا المرض الأعظم لأهل هذا التعلم لا يعلمون أن هذا الذي يحتقرونه هو المفتاح؛ فحينما تحمل القلم وتكتب في الورقة، قد تنظر لما تكتب محتقرا له، لكنه في وظيفة التكوين، وبناء ملكة الحديث وتصوير المراد ليس كذلك”.
وزاد: “البدء يكون بالوصف، وصف الفعل والحيوان والنهر ومجمع الناس، دون فتور عن هذا الأمر؛ حتى ترتقي إلى الدخول في خصوصية النفوس، وهذا مدخل عظيم عند الأدباء؛ فالذي يستطيع أن يدخل في نفس الإنسان، ويأتي بوصفها، مكتشفا لما طوت عليه من أمور، فهذه بداية الصناعة الأدبية في باب الوصف، وطلب هذه الملكة بدون هذا الفعل مما لا سبيل إليه، أي أن تكون اللغة خاضعة لمرادك، واقعة أزمتها بيدك”.
الوصف، وفق السريري، الساعي للإحاطة بكل دقائق الموصوف يستدر “قوة البيان التي يقال إنها كامنة في النفس، لا مأخوذة من الخارج”، ثم بعد الكتابة ينبغي “عرضها على من ترى بأنه صاحب قدرة على التقويم (…) والتقويم الأدبي يكون لمن مارس هذه الصناعة دهرا، فهذا الذي سيقوم بذلك، ثم يوقفك على خصائصك التي هي من ملكتك، وربما انكشف له من هذا القول ما في باطنك من الموهبة؛ أي أن الناس يحملون في بواطنهم بعض المواهب التي تستتر ولا تنكشف إلا بالعمل المعرفي”.
واسترسل قائلا: “رب شخص انطوت نفسه على بعض المواهب إذا لم تربّ وتنمّ فإنها تذبل وتموت، وهذا ضرر يرجع على الناس بهذا الذي ترونه من الفشل في الإدراك، العجز عن إبداء ما في داخل النفس، وهذا أمر واضح جلي في هذا التعليم الذي وضع على هذه الهيئة التي تعرفونها؛ إذا كانت المعارف لم تنزل من أجل الحصول على أزمتها والتصرف فيها، فإن هذا لا يمكن أن يعتبر طلبا للعلم على وجه معرفي صحيح، فلا بد إذن من الكتابة، فكيف يمكن أن نعلم مساحات الإدراك وطبيعة النفوس بغير هذه الطريقة”.
وذكر المحاضر أن الناس في الكتابة “على طبقات؛ لكن الذي لا نزاع فيه أنك ما لم تعمل بيديك لا يمكن أن تكتشف الحرفة؛ ما لم تواظب وردا يوميا في هذا الأمر، ويجب كل صباح وكل مساء تخصيص قسط من الزمان تفرده لهذا الأمر، قد تصف شخصا لقيته ذلك اليوم، أو قد تصف أمرا حدث، ولا يشترط في هذا أن تبلغ بالقول مبلغ قيس بن ساعدة أو سحبان وائل، ولا أحد سيطلب منك أن تنضد الكلام على طريقة البلغاء، لكن يطلب منك أن تستدر قوتك من أجل القدرة على الكلام”.
أما إذا لقي الإنسان “في أول الأمر شيئا من المشقة، لعدم تكونه على هذا الأمر من الأول”؛ فيمكن أن “يحتال عليه بالتقليد؛ فإن من الناس من إذا رأى أن هذا لا يمكنه بطبعه من هذا الأمر، يقلد الكتّاب، فيجاريهم في تبديل الموضوع مع التنسيق في نظم الكلام، وهذا شيء يلجأ إليه طلبة الأدب، فيأتي مثلا إلى كتب ابن المقفع أو الجاحظ، أو المنفلوطي الذي لغته ليست بالقوية، ولكن إذا بدأ به، ثم ثنى بمن ذكر فإن هذا سيكون أفيد، وكذلك الأمر مع عشرات من أرباب هذه الصناعة؛ بالكتابة فيما كتبوا فيه، ولكن مع تبديل العنوان، والإتيان بوصف يساوي ذلك الوصف، مع البحث عن كيفية تنسيق هذا الشخص لهذا الكلام وهذا التسلسل”، ثم “الأشياء تنتقل، والإنسان بطبعه مقلد (…) ويتأثر بالتقليد، فإذا مضى زمان والمرء ماض على هذا السبيل، فبالضرورة تظهر فيه حالة المقلد”، ولو أن “التقليد غير جيد؛ لكنه ضروري في مبدأ الأمر”، و”مصيبة المعارف عندنا أننا نأخذها نظرا ولا ننزلها في الواقع”.
الحفظ ليس كافيا
تساءل السريري في درسه: “أية فائدة قول إننا قد حفظنا مادة لغوية معينة وأحطنا بمعانيها التي جاءت على وجه الحق لا المجاز، ثم إذا احتجنا إلى هذا للتعبير به عما يختلج فينا نكون عاجزين عن ذلك!؟ أيّ تكوين هذا؟”، وتابع: “هل تظن أن في زمننا هذا ستتكون بدون عصامية، أنت واهم، إذا كنت تعتمد على الدرس ستبقى جاهلا إلى يوم الدين؛ المعارف جفت منابعها من العقول والقلوب (…) والكلمات تشحن بطبيعة المتكلم، لا نزاع في ذلك؛ لكن الملكات العلمية التي كانت تنتقل بالطريقة التي عند المتقدمين ضعيفة في هذا الزمان، فعلى طالب العلم أن يضع لنفسه مسلكا يبدأ فيه بالشرط الأول: الكتابة؛ اكتب ثم اكتب ثم أحرق، ثم اكتب، ثم أحرق، حتى تطمئن إلى أن كتابتك تستحق الحياة”.
وإذا لم يعتمد مريد البيان هذا المنهج في اكتساب ملكة الكتابة أو استخراجها من النفس “فإن الوقت سيضيع، ولا فائدة ترجى من هذه الدراسات، سوى الاجترار والحفظ والاستشهاد، ثم إذا حركته خارج ما حفظه ولقنه يقف حمار الشيخ في العقبة، وهذا مما لا يمكن أن يسمى علما”، ولو أن “الاجترار غلب طبعه على الناس في الدراسة اليوم”.
ووضح السريري أن “العالم اليوم يبدأ بالعمل لا النظر”، ثم عاد إلى العربي الفصيح “الجلف الذي يمضي في الصحراء لا يعرف الكتابة ولا القراءة، وقد ملك القدرة على البلاغة والبيان والتصوير الدقيق، بالعمل، والتكلم كل يوم؛ يسمع ويتكلم، ويصف، ويحرك عضلات لسانه، وتتحرك بذلك عضلات عقله، وللسان أثر في القلب والدماغ، يعطيه أنواعا وأشكالا من الهيئات والخصائص”.
ثم بعد اكتساب “رأس المال من الغير”، واستثماره بالكتابة وما يدعمها، يمكن أن يأتي الربح، حسب المتدخل، الذي وضح أيضا أن من سبل تدعيم الكتابة “التحليل بالنظر في أسماء التراكيب، ونوع الاستعارة والمعنى، ثم إذا عجزت عن التسمية فأنت في حاجة إلى قراءة علم البلاغة”؛ لكن “الميزان بلا سلعة مضيعة للوقت، والحاجة أولا أن توجد السلعة، فيكتب الطالب أولا، ثم يسمي التركيبات وأقسامها، وهذه مسائل عقلية نافعة لاستخراج كنوز كلام غيرك، مع النظر في سلامة التركيب، وبعد هذا الأمر تنظر في مرتبة الإسناد حتى تأنس بالكلام ويأنس بك، وتصير قادرا على الدخول فيه، بعد البدء في تملك مفاتيحه، لتفتحه من أجل استنباط ما في داخله”.
ووضح الفقيه المغربي أن “محدث نفسه في الطريق، وواضعها في مرتبة المخاطب، يأتي بأمور للتدرب بها على أن يكون لسانه سلسلا في القول، فلا إشكال في ذلك (…) فما معنى أن تبقى في المدرسة سنينا، حتى إذا طلب منك إلقاء كلمة أمام الملأ أصبحت ترتجف، وتقرأ الورقة عشر مرات، بل ينبغي أن تكون محترفا، وأن تكون قد تعلمت هذه الأشياء في المدرسة، بالتدريج والدوام والمداومة، مع الأصدقاء إن وجدوا، فإن عدموا كن واحدا”.
وانتقد السريري واقع التعليم اليوم؛ فـ”العلوم لا تروج، بل الحفظ والتلقين، والعلوم والمعارف تحتاج خصوصية وشروطا (…) وعواصف هذا الزمان قلما نجا منها إنسان”، فكثير من الطلبة كانوا عصاميين؛ لكن “مع الوقت يفشلون، ورأينا عقولا هنا، لو وجهت التوجيه الصحيح واستثمرت على الوجه المطلوب لكان لها شأن، ولكنها تلاشت وماتت وذبلت، لا لضعف في المدارك العقلية بل لسوء التوجيه”.
وانتقد السريري أيضا الحفظ لمجرد الحفظ، ودون تفكير في سبب الحفظ، واستعمال ما يحفظ في الكتابة؛ فـ”المسجلة تحفظ، ولا تفكر ولا تنتج أو تثمر، أما الإنسان منتج مثمر لا آلة للحفظ”، وليس هذا احتقارا للحفظ، بل تنبيها على أن “الحفظ ينفع مع الفهم والإعمال”.
وواصل: “الكتابة رياضة للذهن، مثل من يجري كل صباح، ومن يحدث نفسه، فهما ليسا مجنونين؛ بل الأول يحتاج جسمه الجري ليقوى، والثاني يدرب عضلات لسانه وعقله على اكتساب الملكة بيسر (…) وهذا ينفع في اللغة العربية واللغات الأجنبية، أما الخمول والموت الذي عم، فهذا شيء على الشباب أن يزيحوه ويزيلوه”.
واستمر الفقيه المغربي في توضيح مقصد إلقائه دروسا في شرح “مقامات الحريري”: “ما لم تنتقل هذه الأشياء إلى التصرف سنضيع الوقت بلا معنى، ولا ننسى أن هذا ليس إلا شيئا يعين وليس المطلب الأصلي، وليحدد الطالب في هذه الأبواب ما يريد، وليطلبه بوسائله وطرقه، فما لم يحدد المطلب لا يمكن أن نعرف ماذا نفعل. حدد غرضك وابحث عنه واجعله مطلبك ولا تنم، وما ينفر الطلبة من العلم عدم التذوق، أي أنهم لا يتذوقون العلم، ولو تذوقوه لأدمنوا عليه”، كما أن “القضية قضية بذل للجهد فقط، وليست قضية زمان، ولا بد من المشقة في المعرفة”.
The post السريري: الكتابة اليومية تفرز الفصاحة .. وتذوق المعارف يفتح باب العلوم appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.