أفاد محمد الزهراوي، أستاذ العلوم السياسية والقانون الدستوري، بأن “الجزائر تبدو اليوم في حالة إنكار غير مسبوقة، إذ يعيش حكامها واقعًا يعكس صراعًا داخليًا ودسائس لا تتوقف، مع شعب، رغم الإمكانات الهائلة، يعيش وضعًا مزريًا، فيما يسعى الحاكم العسكري للبلاد إلى خلق كيانات مصطنعة بدون تاريخ أو هوية، مستهدفًا هذه المرة الريف المغربي، بعدما فشل في خلق إمارة صحراوية جنوب المغرب”.
وفي ظل الزخم الدولي الذي يدعم المغرب في ملف الصحراء أشار الزهراوي، في مقال توصلت به هسبريس بعنوان “الجزائر و’الريف المغربي’.. خطوة استفزازية أم تكتيك دفاعي؟”، إلى أن “الحاكم العسكري الجزائري يحاول إيجاد أوراق تفاوضية جديدة، من خلال تدويل ملف الريف بذرائع مختلفة. ومع تسلّم المغرب وثائق مهمة من فرنسا تؤكد أحقيته على الأقاليم الشرقية يدرك النظام الجزائري أنه في مرحلة انهيار”.
نص المقال:
يبدو المشهد سرياليا، لكن تبدو معه الجزائر أكثر انسجاما مع نفسها من السابق، فلا شعارات مصطنعة، ولا تقرير مصير، إذ غدت وبدون “مساحيق تجميل” من الدول التي تحتل الريادة في العالم في القفز على الواقع والتاريخ والجغرافيا والجوار، حكامها يعيشون حالة “إنكار” غير مسبوقة. صار الجار “متعهد جمهوريات” مثل “متعهد الحفلات”، يهوى خلق “دويلات/ جهوريات”. لماذا يحاول قادة الجيش هؤلاء بهذا الحماس والتهور أحيانا كثيرة خلق “دويلات صغيرة”، وكأنهم لا يدركون خطورة واستحالة ذلك؟.
لربما عقدة التاريخ، التي يحاول “حكام الجارة” أن يتخلصوا منها من خلال خلق “كيانات مصطنعة” بدون تاريخ أو هوية، لكنهم في كل مرة يخطئون التقدير، أو يجهلون التاريخ، فالريف المغربي باختصار جزء لا يتجزأ من تراب الأمة المغربية. الأمر لا يحتاج إلى برهان أو ترافع، هم يدفعون المغاربة لذلك، أو على الأرجح عقدة الجغرافيا، إذ يجازفون من خلال الاعتقاد أن الأمم والشعوب تقاس بالإقليم أو الأرض، وإن كانت بقعة صغيرة لبناء وحدات سكنية، وهي سردية خاطئة. فالتاريخ عبارة عن جغرافيا متحركة، والجغرافيا تاريخ ساكن.
ورغم ما قيل ويقال يظل “الجار العسكري” وفيا لعقيدته العدائية ومذهبه الشوفيني، ونزعته الاصطدامية، وهو بالمناسبة يصطدم حتى مع نفسه دون كلل أو ملل؛ صراعات ودسائس داخلية لا تتوقف، شعب رغم الإمكانات الهائلة يعيش وضعا مزريا، طقوس إقالة للجنرالات مستمرة عبر الزمن، في كل ساعة ويوم وأسبوع وشهر، وسجون مليئة بمن كان يحكم بالأمس القريب. حرب الكل ضد الكل، مقولة طوماس هوبز غالبا يطبقها حرفيا قادة أو من يحكمون عنوة الجار اليوم.
بعيدا عن هذا التوصيف فالسردية الجديدة للجار العسكري محورها الريف المغربي، فبعدما فشل في خلق “إمارة صحراوية” في الجنوب المغربي يحاول اليوم، وبقليل من الحيلة وكثيرا من الغباء أن يصطنع “إمارة ريفية”. وتعود أطوار الحكاية إلى السبت الماضي 23 نونبر 2024، إذ بثت قصاصات الإعلام الدعائي للجار ما مفاده استضافة الجزائر العاصمة الدورة الأولى لما سمي “مؤتمر يوم الريف”. ومن أجل إضفاء الطابع الاحتفالي على هذه “المسرحية” تمت دعوة مسؤولين من جنوب إفريقيا والموزمبيق، وبرلمانيين وزعماء جزائريين ومن البوليساريو.
أطوار الحكاية تعود إلى سنوات غير بعيدة. كرنولوجيا الأحداث موثقة وبسياقات تؤكد أن هذا النظام فقد البوصلة، وبات يخبط عشواء، إذ حاول أن يركب على حراك الحسيمة سنة 2017 وفشل في ذلك، رغم أن السياق في تلك الفترة يفند ادعاءاته وسرديته المؤسسة للعداء (الاتفاق الثلاثي بين المغرب وأمريكا وإسرائيل، والكركرات). كما عمل الحاكم العسكري للجار على توظيف واستغلال أشخاص يوجد مثلهم في كل مكان وفي كل الأوطان، وهم أقلية صغيرة، بغية تأسيس ما يسمى “الحزب الوطني الريفي” وفتح مكتب (تمثيلية) له في الجزائر، والذهاب بل القفز بعيدا في هذا المضمار، من خلال إحياء الذكرى 60 لوفاة عبد الكريم الخطابي؛ ليتجاوز مضمار السباق بشكل لافت ومنفلت عندما احتفل رفقة هذه القلة القليلة بالذكرى المائة لتأسيس “جمهورية الريف”.
لقد توقف الزمن بـ”الحاكم العسكري”، ومازال يعيش على أنقاض الماضي، عندما كانت الجمهوريات عنوان العصرنة والتحديث، أيام الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، رغم سقوط جدار برلين، وانهيار الاتحاد السوفياتي، وأفول نجم الجمهوريات، التي أصبحت اليوم مجرد “جمهوريات عسكرية” مترامية الأطراف على الرقعة العربية.
وبعيدا عن تفاصيل تلك الحقبة التي يختزلها المشهد والواقع الحاليين ما الذي يحاول أن يقوله “الحاكم العسكري” لدى الجار بهذا التصرف الذي قد يستحي المرء من توصيفه بشكل أدق؟ وعند استدعاء الأحداث ومحاولة فهم السياقات وتركيب الصورة قد لا يخرج هذا المسلك الجديد عن فرضيتين أساسيتين، مع استبعاد دافع العداء، لاسيما أنه متأصل في شريان وعقل هذا الحاكم ومن يدور في فلكه.
الفرضية الأولى: بلا شك يحاول هذا الحاكم العسكري الجزائري أن يفتح جبهة جديدة بعدما أيقن أن ملف الصحراء حسم بشكل كبير في ظل الزخم الدولي، إذ باتت ورقة انفصال إقليم الصحراء خاسرة، فقد صار هذا الملف منلفتا، إذ لم تعد روسيا ولا فرنسا ولا أمريكا ولا إسبانيا بحماس الأمس نفسه. الماضي الجميل قد ولى، صارت الأوراق مبعثرة؛ وضع دولي معقد لا يخدم أطروحة الانفصال مثل الأمس، خسرت معه الجزائر كل شيء، لكنها ربحت مخيمات مليئة بالبؤس واليأس، ووضع مشتعل قابل للانفجار في أي لحظة.
أما الفرضية الثانية فقد لا تخرج عن الإطار التكتيكي، إذ يستبق الحاكم العسكري الزمن من أجل إيجاد أوراق تفاوضية جديدة لتقوية موقعه من خلال محاولة تدويل ملف الريف بذرائع ومسميات مختلفة، لاسيما أن المغرب تسلم وثائق مهمة من فرنسا تؤكد أحقيته على الأقاليم الشرقية التي اقتطعها الاستعمار منه، فهو يدرك أنه خرج أو في طور الخروج من رقعة الشطرنج، ويحاول أن يعود من بعيد من خلال توظيف ورقة الريف. مجيء ترامب والأرشيف الفرنسي عاملان غالبا دفعا هذا الحاكم العسكري إلى المضي قدما في سياساته العدائية.
ختاما، يبدو أن عملية جر المغرب إلى الحرب وصلت إلى نهايتها ومنتهاها، سيناريو يظل قائما أكثر من الأمس، لاسيما أن قواعد الاشتباك تغيرت بشكل كبير، فالصورة أوضح، إذ كل المؤشرات تؤكد أن الحاكم العسكري دخل مرحلة “الانهيار” عن جدارة واستحقاق، وضع قد يدفعه إلى تجاوز سقف التوقعات بل وحتى الحماقات.
The post الجزائر و”الريف المغربي” .. عمل استفزازي إضافي أم تكتيك دفاعي؟ appeared first on Hespress – هسبريس جريدة إلكترونية مغربية.